في زمن بعيد يشبه البدايات الاولى للروح كنت اقف فوق المنبر وانا لا ازال طالبا في المرحلة الثانوية ثم في سنواتي الجامعية الاولى كنت القي خطبا تفوق سني وامتلك صوتا لا يشبه عمري كنت اشعر ان الكلمات لا تخرج مني بل تعبر من خلالي كأن المنبر كان نافذة تطل على قدر لا اعرفه بعد وكان المسجد الكبير في بلدي هو المدرسة الاولى التي تعلمت فيها كيف يقف الانسان بين الناس بقلب يتطلع الى وجه الله قبل ان يتطلع إلى اعينهم.
لكن رحلة الانسان ليست خطا مستقيما فالاقدار اخذتني الى عالم آخر عالم الاعلام والصحافة عالم تلمع عناوينه وتضيق مساحاته كان الانتقال من سعة المنبر الى ضيق الشاشة اقسى مما تخيلت فقد وجدت نفسي امام اضواء لا تعرف الرحمة وكاميرات تقيس اللحظة لا النية وعناوين تحاسب الصوت لا القلب شعرت كأن الدنيا تفتح لي ابوابها المزخرفة لكنها تخفي خلفها ضيقا يكاد يبتلع الروح
ومع كل هذا كانت يد خفية تمس قلبي وتمنعني من السقوط كلما اقتربت من وهج يغري او من ظلمة تخدع كنت اسمع في داخلي صدى الآية يقول
{ ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله الحديد 16 }
فكنت اعود الى نفسي وادرك ان الله لا يترك عبده يمضي وحيدا في منتصف الطريق
تعلمت ان الرجوع الى الله ليس حركة جسد بل حركة قلب عودة من تشتت الاصوات الى صفاء الاشارة الالهية فالله يقول
{ اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه اولياء الاعراف 3 }
فعرفت ان الطريق ليس ما يزينه الناس بل ما يثبته الله في القلب
وفي زحمة الاعلام رأيت الانقسامات تتكاثر كظلال تتصارع فوق الارض كل فريق يجر الناس اليه وكل رؤية تدعي امتلاك الحق المطلق وكنت اسأل نفسي كيف يتوه الناس عن بوصلة واحدة انزلها الله بوضوح فقال
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات آل عمران 105 }
فكنت اعلم ان الضياع يبدأ حين نترك البينات لا حين نختلف حول التفاصيل
وفي كل وقت يشتد فيه الضباب كنت اجد القرآن يعيدني الى جوهر الانسان الاول الى تلك اللحظة التي اعلن الله فيها كرامة الانسان فقال
{ ولقد كرمنا بني آدم الاسراء 70 }
فالكرامة هي البوصلة الوحيدة التي لا تنطفئ مهما تعددت الطرق
ولم يكن الصراع خارجيا فحسب بل داخليا ايضا اذ رأيت النفس تحاول ان تقودني كما تقود الرياح سفينة صغيرة فذكرت قول الله
{ ان النفس لامارة بالسوء يوسف 53 }
فعرفت ان اول طريق العودة هو مجاهدة النفس قبل مجاهدة العالم
وكانت رحمة الله هي الظل الوحيد الذي لم يفارقني مهما ابتعدت فقد جاء النداء الالهي دائما كحبل نجاة يمد من السماء
{ قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الزمر 53 }
كنت اشعر ان الله يخاطبني انا وان الآية تنزل في قلبي لا في كتاب
ثم تأتي الآية الاوسع املا
{ ومن عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة النحل 97 }
فأدرك ان الحياة الطيبة ليست مكانا اذهب اليه بل حالة يسكنها القلب حين يعود الى ربه
ومع مرور السنوات فهمت ان رحلتي لم تكن انتقالا من منبر الى شاشة بل كانت انتقالا من بداية الوعي الى اتساع الرؤية من صوت يبحث عن السماع الى قلب يبحث عن الحقيقة من كلمات تلقى على الناس الى كلمات تلقى على النفس اولا
انني حين انظر الى الطريق الآن ارى ان الله كان يمسكني عند كل منعطف ويدفعني الى النور كلما اقترب الظل ويفتح لي بابا كلما ضاق آخر حتى عرفت معنى الآية
{ فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون البقرة 38 }
وهكذا ادركت ان النور الذي بدأت به على المنبر لم ينطفئ يوما بل كان ينتقل معي من مكان الى آخر حتى اضاء الطريق كله فجعلني ارى ان رحلتي لم تكن سوى محاولة صادقة للرجوع الى الله في كل لحظة رجوعا يطهر القلب ويثبت الخطى ويمنح الانسان تلك الطمأنينة التي لا تمنحها الدنيا ولو اعطت كل ما فيها
هذا هو ضوء الطريق الذي وصلت اليه بعد اعوام كثيرة من السؤال والسقوط والوقوف ضوء لا تصنعه الكاميرات ولا تبنيه العناوين ولكنه يخرج من كلمة واحدة قالها الله بوضوح
{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره الزلزلة 7 8 }

