ليس غريبا على المشهد العام في مصر أن تنفلت الأبواق ما إن يجرؤ أحد على إعلان رأي يخالف هوى الجماهير أو تيارات العاطفة وقد رأينا كيف صعد الدكتور سليم العوا إلى منصة الهجوم لمجرد أنه أثنى على موقف للرئيس السيسي ولحق به آخرون مثل عبدالله رشدي حين قال كلمة مدح في سياق آخر حتى بدا وكأن المدح جريمة والرأي خطيئة والاختلاف خيانة تستوجب محاكمة لا تنتهي ويبدو أن الدور سيصل إلى كل من يعلن رأيا غير مألوف حتى لو كان مبنيا على قراءة للمستقبل لا على سجال اللحظة….
لم تكن الضجة التي طالت الدكتور سليم العوا وعبدالله رشدي سوى مرآة تكشف هشاشة الوعي العام حين يتحول الخلاف إلى سيف والهوى إلى ميزان وطنية…. فهذان الرجلان اللذان ظلا طويلا ضمن الصفوف التي دفعت أثمانا باهظة دفاعا عن الوطن وتحملت حصة كبيرة من التهديد والاتهام لمجرد ثباتهما على مواقفهما وجدا نفسيهما فجأة متهمين بالخيانة لأنهما مدحا قرارا أو أشادا بجهد الرئيس السيسي وكأن الوطنية أصبحت عقد إيجار يلغيه الجمهور متى غضب أو شهادة ملكية يمنحها البعض لمن يشاؤون وينزعونها عمن يشاؤون
إن الإساءة إلى العوا ورشدي لا تعكس موقفا منهما بقدر ما تكشف أزمة مجتمع يقدس الاختلاف حين يوافق هواه ويجرمه حين يخالفه ويحول الشرفاء بين ليلة وضحاها إلى متهمين فقط لأنهم قالوا كلمة خارج السرب مع أن الوطنية ليست صراخا في الفضاء ولا لافتة ترفع على الهوى بل قدرة على رؤية الإنجاز ولو جاء من خصم جرأة على قول الحق ولو أغضب الجمهور وإخلاصا للمستقبل أكثر من الارتهان لضجيج اللحظة
إن أسوأ ما يصيب الأوطان أن تصبح المواقف مجرد صدى لجماهير غاضبة أو تيارات متوجسة وأن يتحول المدح إلى جرم والرأي إلى خيانة والاختلاف إلى خطيئة ومن الظلم أن يتحول الشرفاء إلى أهداف سهلة لمجرد أنهم لم يرددوا ما أراده الآخرون فالوطن لا يبنى بالتصفيق ولا يهدم بكلمة إنما ينهض حين نحترم حق كل صوت في أن يقول ما يراه دون أن نصلب صاحبه على أعتاب المزايدة
ولا أستبعد أن يتهمني البعض لو قلت إن الرئيس السيسي سيذكر بعد خمسة عقود رجلا قدم مواقف وانجازات سبقت زمنها وربما يرميني بعض المتحمسين خارج الملة الوطنية كما يفعل كل من يقدس رأيه ويضيق بغيره لكنني اقولها عن يقين فالتجربة اصدق من الضجيج والزمن اكثر عدلا من الشعارات والتاريخ لا يكتب بقلم الغضب بل بحبر النتائج ولعل المصريين حين يبتعدون عن حرارة اللحظة يعيدون تقييم ما جرى كما فعلوا من قبل مع تجارب وشخصيات أصبحت لاحقا رموزا بعد ان كانت محل جدل واعتراض مثل ما حدث مع محمد على وتاريخة القاسى ومع الحقبة الناصرية التي انتهت بظهور الحزب الناصري بعد سنوات من رحيل الرجل
وما يدفعني للحديث ليس الدفاع عن شخص ولا الهجوم على عهد بل مناشدة صادقة لاستعادة كرامة المصري التي خنقها إرث ثقيل لم يصنعه عبد الناصر بقدر ما صنعه بعض رجاله مثل صلاح نصر وشمس بدران وحمزة البسيوني الذين حولوا الاجهزة إلى سيوف والسلطة إلى قيود والامن إلى جدار اعلى من المواطن هذا الإرث ترك في الناس خوفا مزمنا حتى صارت الاهانة تمر بلا اعتراض والظلم يبتلع بصمت وكأن المصري الذي حكم العالم يوما صار غريبا في وطنه
لكنني اثق ان الرئيس السيسي قادر على كسر هذه الحلقة الثقيلة لا ليمنح المصري كرامة جديدة بل ليعيد اليه ما هو اصيل فيه فقد نشأ المصري على شموخ الفلاح واباء العامل وكبرياء الجندي ولم يتعلم العزة من زعيم ولا نال الكرامة هبة من سلطة كما نسى عبد الناصر نفسه وقالها فى خطاب المنشية
ياسادة إنها صفة ضاربة في جذوره أثقلتها فقط عهود القسوة والتجاوز
والإصلاح الحقيقي يبدأ من التفاصيل الصغيرة قبل الشعارات الكبيرة ولذلك فإن إعادة ضبط ميزان القوة بين المواطن ومن يخدمه في اجهزة الدولة خطوة لا غنى عنها وأبسط اقتراح يمكن ان يحمي الطرفين كاميرا صغيرة يعلقها كل موظف يملك سلطة على الناس لا للتجسس بل لحماية الموظف من الادعاء والمواطن من التعسف ولزرع الشفافية في المواضع التي يخشى فيها الناس الكلام
ولا يمكن تجاهل ما جرى أخيرا حين لم تتحرك الهيئة الوطنية للانتخابات إلا بعد تدخل مباشر من الرئيس وهو ما جعل كثيرين يرون أن إقالة الهيئة ضرورة لأن القرار الذي اتخذته كان ينبغي ان يشمل الغاء العملية الانتخابية كاملة لا ١٩ دائرة فقط وهذا يكشف حجم الفجوة بين المواطن وبعض المؤسسات وحجم الحاجة إلى اصلاح جاد يعيد الثقة ويصون الكرامة
إن مستقبل الاوطان لا يبنى بالخوف ولا تنهض الامم إلا عندما يشعر كل فرد بأنه محترم مرئي وأن صوته لا يسحق تحت حذاء غليظ مهما علا صوت السلطة او تبدلت العصور ولعل اللحظة الحالية مناسبة اكثر من أي وقت لفتح هذه الصفحة وبدء رحلة استعادة كرامة المصري في نفسه قبل انظار العالم

