حين يقول الله تعالى ﴿يَا عِبَادِيَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ فان هذا الخطاب الالهي لا يأتي عرضا ولا يحمل ترتيبا لغويا عابرا بل يؤسس ميزانا قرآنيا حاسما في فهم الدين ومعيار النجاة حيث قدم الايمان بالايات على وصف الاسلام في اعلان صريح بان الايمان هو الاصل وان الاسلام ثمرة له وليس العكس وان التصديق بايات الله هو المدخل الحقيقي للامان ورفع الخوف والحزن عن الانسان يوم يلقى ربه
فالايمان في القران لم يرتبط يوما بالانتساب ولا بالشعارات ولا بالمرويات المتراكمة وانما ارتبط بالايات المنزلة التي جعلها الله نورا وهدى وحجة على الناس جميعا فقال سبحانه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ فجعل اليقين شرط الايمان ونفى عنه الريب والظن وقال ايضا ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ فربط الكفر بالايات لا بترك اتباع الروايات او مخالفة التراث
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالنور الذي انزل معه هو القران وحده ولم يسم الله شيئا غيره نورا ولا هدى ولا شفاء للناس ومن هنا يتبين ان الاتباع الحق هو اتباع ما انزل لا ما روي ولا ما دون بعد قرون
اما الاسلام في القران فهو الاستسلام الواعي لله بعد الايمان به وباياته وليس حالة شكلية ولا طقسا اجتماعيا ولا هوية موروثة وقد فصل الله هذا الفرق بوضوح حين قال ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فميز بين اسلام اللسان والجوارح وايمان القلب والعقل وهذا ينسف الاعتقاد السائد بان مجرد الانتساب يكفي للنجاة ويكشف ان الاسلام الذي لا يقوم على ايمان بالايات يظل شكلا بلا جوهر وحركة بلا روح
ومن هنا يبرز السؤال الجوهري من هم المسلمون لقد وضع الله سبحانه في القران الكريم صفات المسلمين في قوله تعالى ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ فاليوم يقف الناس عند مفترق طريق اما ان يكونوا مسلمين بالايمان بايات الله او يعرضوا عنها فيكونوا من الكافرين وقد ترك الله للانسان حرية الاختيار كاملة دون اكراه او تهديد ليحمل كل انسان مسؤولية قراره
ويؤكد القران هذا المعنى بقوله تعالى ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ فكان سبب دخول النار هو الكفر بالايات القرانية لا غيرها
ومن هنا يجب التحذير من الخدعة الكبرى التي روج لها بعض الفقهاء والمفتين حين اوهموا الناس ان الدخول في الاسلام يتحقق بمجرد النطق بالشهادتين دون الايمان الحقيقي بالايات ودون تدبر مقاصد القران وتشريعاته الالهية التي تجاوزت خمسمئة اية ترسم للانسان منهج العبادة والسلوك والعدل والرحمة والاحسان وتحريم الظلم والعدوان واحترام حقوق الانسان ونشر السلام والتعاون على البر والتقوى
ان الدخول في دين الاسلام مشروط بالايمان بالايات وتطبيق شرعة الله ومنهاجه وهو طريق مجاهدة دائمة للنفس في مواجهة الشيطان وتحصين القلب بالعقل القراني والتحكم في الغرائز والسلوكيات ولو تحقق للناس هذا الفهم لما قامت الحروب الدامية ولا النزاعات الطائفية ولا سفكت الدماء ولا انتهكت الحقوق ولكن الروايات التي نسبت ظلما للرسول اخرجت الناس عن كتاب الله وفتحت الباب امام المنهج الشيطاني الذي توعد به ابليس حين قال ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وقال ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
وهكذا استمر التضليل فخسر كثيرون وهم يظنون انهم مهتدون وحذر الله الناس مرارا بان الشيطان عدو مبين فلم يستجيبوا حتى اذا سيقوا الى الجحيم نادوا ربهم نادمين ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ فيأتيهم الرد الالهي العادل ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾
لقد خسر الذين اعرضوا عن ايات ربهم الدنيا والاخرة ولن يبقى للناس يوم الفصل الا كتاب الله مشعا بالنور يهدي من امن به ويترك من اختار العمى في ظلمات نفسه فمن اراد النور فكتاب الله بين يديه ومن اختار الظلام فسيلقى الله وحيدا وحسابه يومئذ عسير
اللهم اني بلغت اللهم فاشهد انك انت السميع العليم

