يثير بعض المثقفين ومنهم فراس السواح مسالة التشابه بين القصص الكبرى في التوراة والقرآن كالخلق والطوفان وبين الاساطير الرافدية القديمة ويعتبرون هذا التشابه دليلا على ان الدين اعاد توظيف رموز اسطورية سابقة ومنحها معنى لاهوتيا جديدا وان الاختلاف تأويلي لا جذري.
هذا الطرح يبدو للوهلة الاولى علميا لكنه في حقيقته يعاني من خلل فلسفي ومنهجي عميق لانه يخلط بين التشابه في الاثر والتشابه في المصدر
القرآن لم ينكر وجود امم سابقة ولا رسل سابقين بل قرر هذه الحقيقة بوضوح
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۚ﴾ غافر ٧٨
هذه الاية وحدها كافية لهدم فرضية الاقتباس لانها تقر بوجود وحي سابق لم يصلنا نصه ولم يحفظ تاريخه الكامل لكنها لا تقر ابدا بان الوحي وليد الاسطورة بل على العكس تضع الاسطورة في موضع النتيجة لا المصدر
العقل امامه ثلاث فرضيات لا رابع لها
اما ان تكون الاساطير اختراعا بشريا محضا ثم جاءت الاديان فاستعارتها
او ان تكون الاساطير بقايا مشوهة لوحي الهي قديم
او ان يكون الوحي نفسه نتاج الخيال الاسطوري
الفرضية الثالثة تسقط عقلا لان الاسطورة متناقضة متعددة الالهة والغايات بينما الوحي القرآني قائم على وحدة الاله والغاية والمعيار
والفرضية الاولى تصطدم بسؤال حاسم من اين جاءت الرموز الكبرى الموحدة في ثقافات متباعدة قبل وجود وسائل تواصل منظمة
يبقى التفسير الوحيد المتماسك عقلا ونصا وهو ان الوحي سبق الاسطورة وان ما نسميه اليوم اساطير ليس الا رواسب ذاكرة دينية قديمة تعرضت للتحريف الشفهي والرمزي عبر الزمن فتحولت من رسالة هداية الى حكايات كونية متخيلة
وهنا يظهر الفارق الجوهري الذي يتجاهله دعاة نظرية الاقتباس
فالطوفان في الاساطير صراع بين الهة غاضبة
وفي القرآن فعل عدل الهي واحد
والخلق في الاساطير نتيجة فوضى كونية
وفي القرآن فعل قصد وحكمة
اذن التشابه شكلي في الحدث لكن الاختلاف جذري في المعنى والغاية
القرآن لا يعيد توظيف الاسطورة بل يسترد اصلها
ولا يمنحها معنى جديدا بل يعيدها الى معناها الاول قبل ان تشوه
ولهذا قال
﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ البقرة ٢١٣
الوحدة هنا ليست ثقافية فقط بل عقدية ثم وقع الاختلاف بفعل البشر لا بفعل الوحي
اما القول بان الاديان متعددة فهذا خلط اخر
فالرسل تعددوا نعم
لكن الدين واحد
﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ آل عمران ١٩
والاسلام هنا ليس اسما تاريخيا بل معنى كليا هو الاستسلام لله وحده وهو ما دعا اليه جميع الرسل دون استثناء
الخلاصة ان التشابه بين القصص القرآني والتراث الرافدي ليس دليلا على الاقتباس بل على وحدة المصدر الاول ثم تعدد مسارات التحريف
ومن يقف عند التشابه ولا يسأل عن الاصل لا يمارس نقدا علميا بل يتوقف عند السطح ويغفل الجذور
القرآن لا ينافس الاسطورة
بل يصححها
ولا يكرر التاريخ
بل يعيده الى ميزان الحق
مجدى طنطاوى يرد على فراس السواح التشابه بين القصص القرآني والاساطير الرافدية قراءة عقلية خارج وهم الاقتباس

