لفهم نشأة الدولة الموريتانية، لا بد من العودة إلى أصل تأسيسي متناقض: دولة حديثة أقامها مستعمر واجه تعقيد البنى القبلية والطبقية وشدة مقاومتها، فآثر في النهاية عدم تحويلها. وهكذا لم ينشئ دولة-أمة، بل أقام دولة عازلة، كان هدفها الاساسي ضبط السيطرة بأقل تكلفة، عبر تفويض ممارسة السلطة لهياكل ما قبل الاستعمار.
رسمت فرنسا، القوة الاستعمارية، حدود البلاد واقامت ادارة، لكنها اصطدمت بواقع "اللا دولة" القوي والعصي، داخل فضاء اجتماعي تنظمه ولاءات الانتماء القبلي، وتدرجات الوضعية الاجتماعية (نظام الطبقات والرق)، ومدونات شرف بقيت غامضة بالنسبة اليها الى حد كبير. وبدل المضي في مشروع مكلف ومحفوف بالمخاطر لبناء دولة-امة موحدة، تقوم على مبادئ المواطنة الفردية والمساواة امام القانون، فضلت الادارة الاستعمارية، بدافع البراغماتية، حماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، واختارت طريق المساومة والتحكم غير المباشر. ولهذا الغرض:
اعتمدت على وساطات قبلية (شيوخ واعيان) ضمتهم الى بنيتها، وعززت سلطتهم مقابل الولاء والحفاظ على النظام.
ادارت المجال عبر التكيف مع الانقسامات القائمة، فعاملت "القبائل" كوحدات تقسيم اداري، لا كمكونات جسد مواطني واحد.
رسخت الوشاية اداة استخباراتية، وشجعت التقارير والبلاغات لمراقبة هذه المجتمعات المعقدة، دون السعي الى فهم مدوناتها الداخلية فهما أعمق.
وهكذا ولدت الدولة "الحديثة" التي ادخلت الى موريتانيا عبر تنازل تأسيسي. كانت، في جوهرها، محاكاة: اطارا قانونيا واداريا اجوف، أسقط على جسد اجتماعي ظل يعيش وفق منطق مغاير جذريا. وعند الاستقلال سنة 1960، لم تورث دولة-امة، بل هذا التناقض ذاته. لذلك لم تستلم النخب الاستقلالية مشروعا سياسيا مكتمل البناء، بل جهاز تحكم يتعين استمراره. وكان تحديها اقل في بناء امة، وأكثر في ادارة ارث انفصامي: قشرة مؤسسية تستمد شرعيتها من الخارج، ونسيج اجتماعي لا-دولاتي، مجزأ وغير متجانس من الداخل.
في هذا الفراغ من السيادة الاجتماعية، ومع استمرارية منطق التحكم، برزت شبكة الوشاية بوصفها تقنية سلطة جوهرية. وتكمن قدرتها على الصمود في انها استطاعت، بعد الاستقلال، توحيد الفاعلين الجدد في السلطة ـ من نخب مدنية وعسكرية ـ تحت راية ايديولوجية مشتركة، اعادت استخدام الاداة التي خلفها المستعمر، مع تحسينها وتكييفها.
الاستقلال المنظم على خلفية الارث الاستعماري
اعتمدت الدولة الناشئة على ائتلاف ضم:
الكوادر المدنية خريجي التعليم الحديث، ورثة الإطار الاداري الاستعماري، وحملة خطاب تحديثي ذي نبرة استقلالية.
الضباط العسكريين، بوصفهم المؤسسين والضامنين الجدد للسيادة والاستقرار في مواجهة الهشاشات الموروثة.
كانت هذه المجموعات مفرزات مؤسسية، ومستفيدة مباشرة من النظام الاستعماري. ولم يكن "حداثيوها" بديلا للنظام القبلي، بل غالبا ما شكلوا طبقة ادارية جديدة تعلمت اللعب على الجانبين: خطاب الدولة الحديثة، وتوظيف الولاءات التقليدية لتثبيت السلطة. وعلى الرغم من اختلاف مواقعها، اجتمعت حول شعارات موحدة، مستعارة من معجم الحداثة السياسية:
البناء الوطني،
الدفاع عن الوحدة،
التقدم الديمقراطي.
وقد ادت هذه اللغة، الضرورية لاكتساب الشرعية الدولية، وظيفة الغطاء السام لاستمرار ممارسات التحكم الموروثة.
الوشاية: لحمة التحالف وارث متقن
تحت غطاء هذه الايديولوجيات الكبرى، تحولت الوشاية الى الاداة التشغيلية الجامعة للتحالف ما بعد الاستعماري، الذي تمكن من:
تداول استراتيجي للمعلومات بين الاجهزة المدنية (الادارة والاحزاب) والاجهزة العسكرية والامنية، بما خلق ترابطا وظيفيا يعيد انتاج منطق الاستخبارات الاستعمارية ويطوره.
تجريد المعارضات من الشرعية بشكل ممنهج، عبر وسمها بمفردات السلطة الجديدة بوصفها معادية للوطن، او مفرقة للصف، او مهددة للأمن الوطني.
تقاسم منافع السلطة في استمرارية مباشرة للعهد الاستعماري، اذ ضمنت المشاركة في المراقبة اعادة توزيع المناصب والموارد بين المجالين، معززة نظاما مشتركا يقوم في آن واحد على الشرعية الشكلية للدولة، والولاءات الفعلية داخل النسيج الاجتماعي.
الاستيلاء على المثل لتبرير التهجين
نفذ النظام، على هذا الاساس، استيلاء عميقا على السرديات التعبوية لإخفاء طبيعته الهجينة:
استدعيت القومية لتبرير مراقبة العناصر المشتبه في انتمائها الجهوي او القبلي، بينما تمارس خلف الكواليس محسوبية نسبية كانت الدولة منتجتها لا قاتلتها.
رفعت الديمقراطية شعارا شكليا، في الوقت الذي اغلق فيه المجال السياسي عبر تخويف الوشاية، الارث المباشر لمنطق التحكم غير المباشر.
تحولت الوطنية الى اداة اتهام دائمة، تحول كل خلاف سياسي الى شبهة خيانة تجاه دولة لم تؤسس قط قواعدها المواطنية.
وقد عقمت هذه الالية النقاش العام، وجعلت بروز نقد بناء امرا شبه مستحيل، اذ يمكن خنقه فورا بواسطة الشبكة ذاتها.
وعليه، فان نظام الوشاية في موريتانيا ليس شذوذا عارضا، بل دعامة بنيوية لدولة محاكية، ولدت من تنازل استعماري عن تشكيل جسد سياسي موحد. وأصبح، من ثم، الدعامة الوظيفية لدولة نشأت من ذلك التنازل ذاته. وتكمن قوته في طبيعته الهجينة، اذ يواصل، تحت اثواب جديدة (التحالف المدني-العسكري، والخطاب الوطني-الديمقراطي)، تقنية التحكم غير المباشر التي اقامها المستعمر بدافع البراغماتية.
ان اي امل في اعادة التأسيس يقتضي مواجهة هذه النشأة مواجهة صريحة. فالمسالة لا تتعلق بإصلاح مؤسسات فحسب، بل بمواجهة الفراغ الاصلي: غياب تأسيس مشترك يقوم على المواطنة الفردية المتساوية. وهذا يستلزم نزع فتيل اليات الولاءات الموازية، وخلق فضاء عام تكون فيه المواطنة فوق كل انتماء اخر. اي تفكيكا واعيا لذلك العهد الخفي الذي، من المستعمر الى نخب ما بعد الاستعمار الى ورثتهم الجدد، فضل دوما الادارة البراغماتية للتجزئة على البناء المحفوف بالمخاطر لجسد سياسي موحد. والمهمة، في جوهرها، هي الشروع اخيرا في عمل البناء السياسي الذي تخلت عنه القوة الاستعمارية، وتجنبته الدولة المستقلة بصورة منهجية، لمصلحة ادارة مجردة بلا تأسيس جامع.
الوشاية، إرث يشل الدولة / الولي سيدي هيبه

