يتكئ المسار الثقافي والاجتماعي في المنكب القصي، منذ الاستقلال، على منطق "غش تاريخي" بنيوي مستمر، متمثل في إيهام الشعب بحدوث تحول اجتماعي وقطيعة مع الهيمنة القبلية-الطبقية، بينما ظل يجرى في الواقع ترحيل هذه الهيمنة من شكلها التقليدي إلى نخبوية جديدة متعلمة ومنفتحة شكليا تحافظ في جوهرها على منطق الامتياز والتراتبية الاجتماعية، مع إعادة شرعنتهما "رمزيا" عبر خطاب حداثي إيهامي يستغل القوالب التاريخية و يسخر ذكاء أدوات الحداثة، من دون إحداث أي قطيعة معرفية أو اجتماعية فعلية.
ومن نافلة القول إن الدولة الوطنية الحديثة ورثت تراكماً ثقافياً واجتماعيا تشكل في سياق تاريخي اتسم بغياب الدولة المؤسسية بالمعنى الحديث، حيث حلت محلها بنى تقليدية أقرب إلى “دولة القبيلة”، قائمة على الهرمية الصارمة وشبكات الولاء الضيقة. وفي ظل هذا الفراغ المؤسسي، جرى توظيف الدين - الذي يفترض أن يكون منظومة أخلاقية وقوة تحرر اجتماعي - بوصفه أداة لإضفاء المشروعية على التراتبية الاجتماعية القائمة. وقد تم تسخيره، عن قصد ووعي، لخدمة البنية المجتمعية السائدة، فتحولت الخطابات الدينية إلى غطاء رمزي يمنح الشرعية للامتيازات الموروثة ويعيد إنتاجها.
ومع شيوع التعليم النظامي واتساع دائرة الشهادات الأكاديمية، لم يختف هذا النموذج النخبوي، بل أعاد إنتاج نفسه في صورة أكثر مراوغة. فقد برزت نخبوية رجعية جديدة، تحولت فيها "الشهادة العلمية" من وسيلة للتحرر الفكري والاجتماعي إلى شارة تمييز طبقي. وهكذا انتصرت الرجعية متخفية في ثوب حداثة شكلية، غدت فيها المعرفة سلعة رمزية تقتنى للتباهي، وتعرض على المنابر الصاخبة دون أثر إشعاعي حقيقي، لا أداة لفهم الواقع ولا رافعة لتغييره؛ وهي النخبوية الجديدة التي تقوم على منطق مزدوج:
الأول: احتكار الخطاب الديني وتوظيفه انتقائيا لتبرير الامتيازات الطبقية وتكريس السلبية الاجتماعية.
الثاني: احتكار الخطاب العلمي الشكلي من خلال التركيز على الشهادة كهدف نهائي، مع إفراغها من مضمونها النقدي والإبداعي.
وهكذا تحول التعليم من جسر للتحرر إلى "سجن جديد للوعي"، حيث تنتج المؤسسات التعليمية أجيالا تحمل شهادات ولكنها تفتقر إلى القدرة النقدية والرؤية التحويلية، بل وتصبح جزء من آلية إعادة إنتاج النظام الاجتماعي التراتبي التقليدي في قالب عصري.
وتتجلى النتيجة الحتمية هي حالة من الركود الثقافي المزمن، حيث يسيطر الجمود الفكري تحت مسميات التقدم، وتحاصر أي محاولة حقيقية للتجديد تحت دعاوى "حماية الهوية" أو "الالتزام الديني"، بينما يتم في الحقيقة حماية المصالح الطبقية والامتيازات القديمة بأدوات حديثة.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب كسر هذه الدائرة المغلقة عبر:
ـ تحرير المعرفة من احتكار النخب الشكلية.
ـ ربط التعليم بقضايا المجتمع الحقيقية ومشكلاته التنموية.
ـ إعادة الاعتبار للعقل النقدي كأساس لأي نهضة حقيقية.
ـ توظيف الدين لتصحيح المفاهيم المجتمعية الرفيعة وإعادته إلى مجاله الأخلاقي والروحي التحرري بعيدا عن التوظيف السياسي والطبقي الجائر.
لم يتحقق الاستقلال الحقيقي لمجتمعنا بمجرد رحيل المستعمر الخارجي، فهو لا يزال ناقصا بوجود "المستعمر الداخلي" المتمثل في الذهنية الرجعية المقاومة لأي تبديل. وعلى الرغم من تغير مظاهرها وأساليبها، فإن هدفها يظل نفسه: إعادة إنتاج الهيمنة الأرستقراطية المحافظة وحماية امتيازات أقلية ضيقة، على حساب وعي المجتمع وقدرته على التحرر والتقدم.

