كتب - العبد الفقير إلى الله الراجي رحمته: د. طارق أبو نور
إمام خطيب، رئيس معهد التعليم العالي الإسلامي بباريس
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾
الفقر إلى الله حقيقة كونية يشترك فيها جميع الخلق؛ أحبّوا أم كرهوا، علموا أم جهلوا. غير أنّ الفقر عند أهل الله ليس مجرّد وصفٍ وجودي، بل مقامٌ تربويٌّ وذوقيٌّ عظيم، لا يُنال بالدعوى ولا يُدرك بالقراءة وحدها، وإنما يتحقق بصحبة الشيوخ العارفين، ومجاهدة النفس، والصدق في التوجّه.
فالفقر عند القوم هو ثمرة التحقق بمعنى لا إله إلا الله، حين يُنزع من القلب كلُّ سوى، فلا يبقى فيه إلا الله، حالًا ومقالًا، في القبض والبسط، في المنشط والمكره، في السرّ والعلن. هو فقر يورث الغنى بالله، ومسكنة تفيض عزًّا، وتجرّدًا يثمر كمال الأدب.
ومن هنا تُفهم الكلمة الجامعة التي قالها أحد شيوخنا، سيدي حمزة القادري البوتشيشي، حين سُئل سؤالًا ظاهره الاستفزاز وباطنه الجهل بحقائق الطريق:
إنك حامل لكتاب الله، وخريج القرويين، وعالم في الشريعة قبل الحقيقة، فهل من كتبٍ خلّفتها؟
فأجاب، بابتسامته المشرقة، في كلمتين اختزلتا مشروعًا تربويًا كاملًا:
« *كتبي… فقرائي* ».
لم تكن الكلمة تهرّبًا من السؤال، ولا تقليلًا من شأن التصنيف، بل إعادة ترتيب للميزان: *فالكتاب في منطق الطريق ليس حبرًا على ورق، بل إنسانٌ مُربّى،* تشكّلت أخلاقه، واستقامت أحواله، وتحقّق بآداب الشريعة وأنوار الحقيقة.
إنّ الفقير الصادق، رجلًا كان أو امرأة، هو مرآة صافية تعكس أخلاق شيخه وأحواله، في السرّ والعلن. وهذا هو ما يسمّيه القوم «التوجّه»: انتقال النور بالحال، لا بالادعاء؛ وبالمحبة الصادقة، لا بالشعار. ومن هنا كان الفقراء يدعون إلى الله بأحوالهم قبل أقوالهم، إذ تتجلّى فيهم الأخلاق السنيّة، لا على جهة التقليد، بل على جهة التشرب والتحقق.
وكلّ ذلك من كرم الشيوخ، الذين أبَوا إلا أن يبثّوا في مريديهم ما نالوه بمشقّة الأنفس وطول المجاهدة، من فيوضات رحمانية وعلوم لدنية، من غير حولٍ من المريد ولا قوة.
ومن أتاك الفضلُ منه، فلا تفكّ القصد عنه.
فالفقير الصادق كتابٌ مفتوح، صفحاته من ذهب التجربة والصدق، يروي قصص التحول: كيف انتُشل من أوهام النفس إلى يقين محبة الله، وكيف انتقل من التشتت إلى الاستقامة، والاستقامة خير من ألف كرامة. لكلّ فقير مقامه، ولكلّ مقام حكايته، لكنها تجتمع في أصل واحد: صدق التوجّه، وصحة الصحبة.
لقد ترك الشيوخ مريديهم على المحجّة البيضاء، لا غموض فيها ولا التباس. فمن ذاق وتربّى، صار من الأكابر والواصلين، ومع ذلك يسكن تحت ظلّ المسكنة، لا يدّعي لنفسه مقامًا، ولا ينسب لنفسه فضلًا، بل يرى الناس خيرًا منه، مصداقًا لقولهم: «أولاد سيدي ما فيكم تالي». فكلما ازداد علمه بالله، ازداد تواضعه وافتقاره إليه، فخلع الله عليه من صفاته الجميلة، فأغناه به، وكان فضل الله عليه عظيمًا.
وإذا كانت هذه الطاقات الروحية والعلمية ثمرة للتربية الصوفية، فإنّ شكر النعمة يقتضي التحلي بالأخلاق المحمدية: مع الصديق والعدو، في اليسر والعسر؛ أن يكون الفقير مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، مخموم القلب، صدوق اللسان، طيب الكلمات. وذلك من علامات التربية الصالحة، وبشائر التوفيق للوفاء بالعهد والميثاق.
ومن هنا نفهم وصية الشيوخ وبشارتهم:
« *مشروع طريقنا المبارك أن يكون كل فقيرٍ وفقيرةٍ رحمةً للعالمين* ».
فالخطر ليس في قلّة العلم، بل في *فساد الخُلُق* ؛ في أن *يتحول المنتسب للطريق إلى لعّانٍ، فحّاشٍ، ينفّر ولا يبشّر، ويهدم بحاله ما يُفترض أن يبنيه بانتمائه.*
ولعلّ ما نشهده اليوم من حرب على الانتباه واستهداف للقيم والفضيلة، ليس إلا امتحانًا لصدق التوجّه، ومتانة الأواصر، وقوة المحبة في الله. فمن كان بالله مشتغلًا، مستغرقًا، لا تمسّه هذه الحرب بنصب ولا لغوب؛ قد اكتفى بالكافي، وأنِسَ بصحبة الفقراء، إذ ما لذّة العيش إلا صحبة الفقراء.
متمسكًا بحبل الشريعة، ثابتًا على أصول الطريق، معتقدًا في نفسه النقص والعيب:
«عيبٌ بدا بينًا، لكنه استتر»،
بينما الحقيقة في قلبه تمدّه وتنير دربه، فيرى بنور الله، ويتأدّب مع أقداره، حتى يأتي الله بأمره.
﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ في قلوب الصادقين، ولو كره المتنطّعون والماكرون.

