البرباره: الجدة الخامسة ومعمرة أفله .. مسيرة مبهرة لامرأة استثنائية (بورتريه)
الموريتاني : ذات يوم من عام 1909؛ حين كان الحي القادم من بادية تامشكط ينتجع بمواشيه إلى الشرق وضعت والدة البرباره طفلة في بلدة البرباره بضواحي لعيون سمتها ميمونه لتأخذ بعد ذلك اسم هذه البلدة فعرفت به حتى اليوم.
عاد الحي إلى الغرب وتربت الطفلة في حضن أمها وفي وقت مبكر أظهرت الكثير من قوة الشخصية والشجاعة والاستعداد مما مكنها من الاستقلال الذاتي والاعتماد على النفس والقدرات الخاصة وهي لاتزال شابة يافعة.
استقرت السيدة في وادي “المرفك” على بعد 20كم جنوب مدينة تامشكط وبه خاضت معركة الحياة في ظروف بالغة الصعوبة حتى اليوم.
شياه وبقرات قليلة هو أكثر ما ملكته البرباره فانكبت وهي في ريعان شبابها على الأرض واتخدت من الزراعة المطرية مهنة أردفتها بزراعة النخيل فكانت ثاني شخص بعد الشيخ محمد المجتبى يغرس فسائل النخيل في ذلك الوادي الموحش.
تزوجت البرباره خمس مرات ولم تنجب غير ثلاث بنات من زوجها همد تزوجن في مقتبل العمر وانصرفن إلى شأنهن وأسرهن فصارت البرباره وحيدة في الوادي لا تغادره مهما أجدب ولا تفارقه في أي موسم.اعتمدت بالإضافة إلى ما تنتجه من حبوب الزرع على ثمار الأشجار من نبق وإيزن وإمجيج بالإضافة إلى آز فكانت تأكل وتقري ضيوفها.
عرفت هذه السيدة بالكرم والصمود في وجه كل المشاكل والأزمات التي عرفتها المنطقة من ضربات الجفاف وعاديات الزمن فلم تخف ولم تتكاسل ولم تستسلم.
كانت بلدة “المرفك” معبرا يقع على طريق المسافرين من الشمال إلى الجنوب من منتجعين وقوافل وحتى باحثين عن “أظوال” في زمن عصيب لا وفرة فيه؛ لذلك يقول سكان المنطقة أن ثلاثة أشخاص فقط هم من تجرأ على المكوث والقوامة هناك هم الشيخ محمد المجتبى وكرب ولد الشيخ ثم المرأة القوية البرباره.
كانت ميمونة(البرباره )تمتلك العديد من المواهب فقادها صوتها الشجي الجوهري إلى انعاش الأفراح الشعبية والفعاليات الاجتماعية وصارت رئيسة لفرقة فلكلورية ويحكى عنها حين لا تجد من يحلب لها أخذها الطبل والشروع في الغناء فتسمع من مسافات بعيدة فيهرع إليها الرجال من كل صوب فتجد من يحلب لها، وفي أيام الأعياد الوطنية وزيارات المسؤولين وفي الحملات الانتخابية يتم استدعاؤها فتشغل الجمهور في فنون شعبية مختلفة تجتذب الناس فلا يبالون بغيرها.
المرأة التي تجاوز عمرها اليوم 115 سنة هي جدة خامسة لعشرات الأحفاد وهي اليوم في رعاية حفديتها تسلم بنت صمب، لم تسافر بعيدا ولم تزر الطب لغير وعكات عادية إذ ليس بها حتى كتابة هذا التقرير مرض خطير أو مزمن.
لم تعد لها ذاكرة قوية ولا تبصر غير أنها تتمتع الآن بصحة جيدة وبعض الأوقات تتذكر أشياء وتتحدث بشكل سليم عن بعض الأحداث.
مغرمة بالشاي وتفضل وجبة “العيش” على سواها مع أنها تأكل حاجتها القليلة من كل ما تيسر.
فارعة دون وزن خفيفة الدم عاشت من أجل الحياة فكان لها ذلك العمر المديد زاده الله.
آثارها بائنة في تلك المنطقة وناطقة في كل غابة وسهل وهضبة وحقولها لا تزال معطاء في رعاية الأحفاد.
لعبت دورا تاريخيا مشهودا في المنطقة وبصمت كافة المراحل من أيام الاستعمار وحتى اليوم، وهي شاهدة على أحداث قرن من الزمن حازت خلالها تجارب غنية دون أن يستفيد منها أحد حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم فأول نبش لأخبارها يأتي على يد وكالة كيفه للأنباء هذا الأسبوع بعدما لم يعد لها سمع أو بصر وذاكرة تكفي؛ لذلك ضاعت ذاكرة عجيبة ومرجعية واسعة دون أن يدون أحد شيئا من شاهدة على قرن كامل من حياة تلك المنطقة الحيوية.
هي اليوم معدمة وضعيفة في ذلك الكوخ الخرب، ولا يتذكر أهلها أي لفتة من الحكومة ترد لها جميلا؛ إذ لم تستفد من البرامج الاجتماعية التي تطلقها الدولة رغم حاجتها وأحقيتها.
والذي يحمل على الدهشة هو أن حقول البرباره “التاريخية” التي أنشأتها قبل قرن من الزمن مازالت حتى اليوم تُحْمَى بالعيدان وأغصان الأشجار ونهرات الأحفاد رغم ما يوزع من سياج ومعونات زراعية تسقط في أيدي النافذين والأغنياء، أما سياسو المقاطعة فإن فتاتهم موجه لشراء المواقف السياسية ولمن هم أقوى من أمنا المسكينة البرباره.
علم من أعلام أفله وكادحة عظيمة ساهمت في بناء الدولة الموريتانية بما أتيت من مواهب ومهارات تركن إلى فراشها، لا تجد من «الرسميين” من يلقي عليها السلام أو يتفقد حالها أو يتذكر فضلها ؛فضلا عن مساعدتها وتقديم الرعاية لها.
عاشت البربارة قرنا ونيفا من الزمن في خدمة المجتمع والدولة قبل أن يقعدها الدهر والآن لا تبدي هذه الدولة أي اهتمام بهذه السيدة الاستثناء ولو برهة حتى يقض الله ما هو قاض.
https://www.youtube.com/embed/h-Rk8mJfaP4