ملاحظات على أوضاع موريتانيا 1-3 \ د أيمن السيسي
احب ذاك البلد وأشفق عليه من الشقاق والتأزم ، وأعرفه إلى الحد الذي يسمح لي بالحديث عنه .
فقد تعددت زياراتي له خلال ربع قرن بالتمام ، أكرمني أهله باستضافتي في عدد من بيوت أهله الطيبيين ، واكرمني رئيسها الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني ووزير دفاعها الفريق حننا والشيخ علي الرضا بن محمد ناجي الصعيدي وغيرهم بمساعدتي في توفير مخطوطات و كتب ومصادر رسالتي للدكتوراة عن موريتانيا منتصف القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بلورت القواعد الاجتماعية التي نظمت حياة النخب الحاكمة في نواكشوط منذ استقلال البلاد عام 60 وحتى الآن ، كما لاقيت إهتماما وكرما ومحبة من أساتذتي وأحبائي وزملائي منهم الأديب والمفكر الكبير محمد ولد الدكتور أحظانا واستاذي الدكتور محمد ولد البرناوي والمستشار محمد شيخ سيديا وعبد الله ولد سيدي حننا (عمدة المكفى ) الذي استقبلني لأيام قبل سفري إلى تمبكتو إبان إنفصال أزواد ، ولم يدعني أسافر إلا مع سائق يأئتمنه على رقبتي ، ووفر لي هناك من يتابعني ويطمئنه علي ، وأستقبلني عند عودتي ورفض أن أعود إلى نواكشوط قبل أن أرتاح أياما من عناء السفر و أيضا الزميل جمال بن عمر و محمد محمود شياخ وأحمد بن جدو وغيرهم ، فلهم جميعا فضل إكرامي ومساعدتي ، ولهم وللبلاد كلها فضل العلم علي ، إذ تعلمت فيها الكثير على يد شيوخها وأساتذتها قدماء ومحدثين ، كما وفرت لي زياراتي المهنية لها كصحفيّ استقصائي وباحث تاريخ وجوال كم جيد من معرفة البلاد فاحببتها و أحببت أهلها ، وأحببت ضحاها وعصرها ، وصلاة الفجر فيها ، والوضوء ببعض ماء قليل في صجرائها ” على المكاره ” ، ولذلك أقول من خلال هذا الحب وهذه المعرفة أن موريتانيا تعج الآن بتفاصيل عديدة مزعجة تضر بالبلاد وأمنها وصورتها خارجيا ، و لابد من حسمها لتنظيم سير البلاد إلى الأمام ، على الأقل لتثبيت أقدمها في منطقة أصبحت ” على كف عفريت ” وتتنازعها رغبات الإستلاب و الأسر ، وموريتانيا بها من الموارد التي تتيح لها النهضة ورعاية مواطنيها ، إن أحسن إدارتها ببعض الإبداع ، وفيها من العقول النيرة من يمكن الاعتماد عليهم في مجالات عدة شرط أن تتوقف مهاجمة المسؤلين وإرباكهم . في حملات صحفية أعرف أن كثير منها مضلل ومدفوع ومنها حملة الرئيس السابق عزيز، فهناك من يلعب بورقته لمصالحه الخاصة ، ومنهم من يرتدي قميصه نكايه في الرئيس الحالي غزواني لأهداف أخرى ، ولا يخفى على احد انفاق المال على هذه الحملات ، فالمعلقون بأذيال عزيز والمرتدون لقميصه لن يحققوا شيئا من وراء حملتهم سوى بث الفرقة و زيادة التوتر في البلاد ، فعزيز نفسه انتهى كسياسي ، خصوصا بعد أن أدانته المحاكم واستعادت منه أموالا ، وحقبته مضتت بكل مافيها من ايجابيات وسلبيات ولن يعود مرة أخرى ، فلا داع لإنفاق المال على مايسبب ضغائن وشقاق ، و موريتانيا ليست امريكا كي يعود رئيس سابق فيها إلى الحكم ، تلك مسائل في بلادنا غير مقبولة ، وإن حدثت فأنها يمكن أن تشقق البنيان الإجتماعي بكامله بصورة لا يمكن رأب الصدع فيها ، ولعل من المفيد أن نناقش بعض ما صرح به الرئيس السابق عزيز ، ومنها أن غزواني عندما كان رئيسا لأركان الجيش ، ز ومعه ولد اجاي عندما كان وزيرا للمالية أثناء رئاسة عزيز :” قدما لي مشروع بناء ميناء انجاگو بتكلفة 500 مليون دولار وبعد مراجعة التكاليف وجدتها لا تتجاوز 80 مليون دولار وهو ما تم فعلا ” !!! وهذا الكلام – إن صح – فإنه يدين عزيز نفسه ولايبرئه من فساد ، فكيف يعرف أن وزير ماليته ورئيس أركان جيشه فاسدان ولا يحاكمهما أو على الأقل يقلهما من منصبيهما ،وبالتالي كان أجدى ألا يدعم غزواني مرشحا للرئاسة ، فلو كان مانطق به صحيحا فهذا يعني أنه فاسد وخائن لبلاده لأنه دعم ترشيح من يعلم فساده ، أما التفسير الآخر وهو الأقرب للمنطق والصحة أن ترشيحه لغزواني كان نابعا من قناعته بقدرة الرجل على إدارة البلاد وأمانته ، وهذا مايحسب له كرئيس أد ى مهمته ورفض تغيير الدستور ليستمر ، و لذلك دعم الغزواني لأنه يثق به وبحنكته ونزاهته، وذلك يحسب له تماما ، و بالتالي فإن مهاجمته لغزواني الآن تثير تساؤلات مريبة . وبنظرة فاحصة ارى أن مكافحة الفساد جزء من مشروع الرئيس غزواني ولذلك كانت توجيهاته لرئيس الوزراء المختار ولد اجاي عند تكليفه واضحة وحاسمة بألا تهاون مع اي مسؤل مهما كان موقعه وأهميته وأن المسطرة القانونية واضحة، والكلمة فيها للقضاء. و ذلك يضع الرئيس وحكومته أمام مسؤلية كبيرة لا شك أنهما يدركانها جيدا ، و قد بدأت الحكومة على يد رئيس الوزراء ولد اجاي خطوات المواجهة بتخصيص وزارة خاصة بأملاك الدولة و العقارات ، سيكون لها دورها في إنتشال هذا القطاع من الإنهيار بل و المساهمة في منع الفساد فيه ، وعلى الجميع إن أرادوا فلاحا أن يدعموا هذا التوجه أن يلتفوا حول الرئيس ولد الغزواني و تطبيق ما قال في خطاب له من أن “الحرب على الفساد والرشوة وسوء التسيير حرب الجميع: حربُ المنظومات الإدارية والقضائية، حرب أجهزة الرقابة والتفتيش، حرب النخبة من علماء وأئمة وساسة ومثقفين وقادة رأي ومجتمع مدني وصحافة ومؤثرين اجتماعيين ولا سبيل للنصر فيها إلا بتضافر جهود الجميع ” . وهو ما يعني أن الجميع مسؤل – كل بقدر علمه وقدرته – عن مواجهة الفساد ، و لكن هناك من المعارضين لهذا التوجه ممن يطنطن باستشراء الفساد ويكتب ويتحدث كثيرا عن ذلك ، وهؤلاء تنطبق عليهم الآية ” وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ” (58 التوبة) ، ولعل من الغريب أيضا أن الإعلام في موريتانيا قاصر- رغم بعض المحاولات الجادة – عن تسويق السياسات العامة والإنجازات التي تمت في هذا العهد لكي تسهم في جلب الإستثمارات وتطمئن المانحين ، و عجز عن ترويج مشروعات استحدثها الرئيس الغزواني مثل الإهتمام بالفقراء والمهمشين وفي قلبه مشروع ” تآزر ” و أنه لأول مرة في تاريخ موريتانيا تصرف مبالغ شهرية للأسر الفقيرة ، مع تأمين صحي لربع السكان مع إدماج الوالدين في ذلك التأمين ومجانية الكثير من الخدمات الصحية ، و بناء وتشييد الجسور والطرق الآمنة ، أما أهم هذه الإنجازات في تقديري فهو مشروع الصرف الصحي الشاملٍ لنواكشوط، فهذا المشروع يمثل – كما يقول صديقي الدكتور سيدي محمد الطالب أعمر – حلمًا طال انتظاره و يهدف إلى تطوير شبكة الصرف الصحي المنزلي كاملا، مُنهيًا بذلك عصر “فونصات” غير صحية ، ويسهم في تحسين نوعية المياه الجوفية والسطحية، مما يُعزز الصحة العامة ، و يُقلل خطر الفيضانات ويُحمي البيئة من التلوث. كما أن هذا العهد تشهد فيه موريتانيا استقرارا أمنيا وحيادا إيجابيا في مشكلات المنطقة وهو ما فرض على القوى الإقليمية إحترام الرؤية الموريتانية ودورها الإيجابي في أزمات المنطقة ، و أرى أن العقل الجمعي الجزئي للنخب في موريتانيا واع جدا بكل الأمور الإستراتيجية والتنموية ، وأقصد به الأكاديميون والعسكريون ، ولحسن الحظ أنهما قادران على الفهم الدقيق للحاضر والوعي الواضح بالقادم والمعرفة بحدود استراتيجيات الأمن القومي وتحديات السنوات القادمة والأخص منهم ان كان عسكريا مثقفا أو أكاديمي ذو خلفية عسكرية هو ما تحتاجه البلاد ، ويدركون أن التنمية ضرورة لأنها ستخدم المواطن وتحافظ على محددات الأمن القومي والحفاظ على ركائزه ويقع عليه