المطعونون في شرف الاستقامة / الولي سيدي هيبه
![](https://elmouritany.info/wp-content/uploads/2025/02/images-4.jpeg)
الموريتاني : إعادة نشر بتصرف
دفع الكثيرون من كفاءات البلد – ويدفعون – ثمنًا غاليًا مقابل تمسكهم بنزاهتهم ووفائهم لمبادئهم، رافضين الاستسلام لإغراءات المناصب أو المال أو التواطؤ مع الفساد. هؤلاء الأفراد، الذين اختاروا الوقوف بثبات في مواجهة الانحرافات والمساومات، يتم إبعادهم عن مواقع الريادة والتوجيه، ليس لعدم كفاءتهم، بل لأنهم رفضوا أن يبيعوا ضمائرهم مقابل مكاسب زائفة. بسبب مواقفهم النبيلة، غالبًا ما يجدون أنفسهم عُرضة للتهميش والعزل، بل ويُحرمون من الترقيات والفرص التي قد تكون لهم. وفي بعض الحالات، يُغلق أمامهم باب المواطنة الحقيقية، ليمكثوا في عزلة يقتصر دورهم فيها على الصمت المفروض. وعلى الرغم من ذلك، تظل أصواتهم حية، شاهدة على الحق والعدالة، تنادي برفض واقع الفساد والرداءة من جهة، وبمبادئ المساواة والكرامة الإنسانية من جهة أخرى، متحدية عزلة قوى الفساد المهيمنة بأطرها التقليدية الفاسدة وأساليبها الجديدة المراوغة.
إن هؤلاء الذين يتم الطعن في شرف إنسانيتهم ونبلهم لأسباب لها صلة في أغلب الأحيان بالحسابات الانتمائية والتراتبية والشرائحية والسياسوية، هم في الغالب أصحاب الكفاءة والانضباط المهني الوظيفي في سلك الأطر والموظفين والمسيرين والإداريين، الموهوبين الذين يتمتعون بالكفاءات العلمية والمهنية العالية التي لا جدال فيها. ورغم ذلك، فقد جُردوا من حقوقهم بدوافع تعسفية واستهتارية لا أخلاقية. وإذ استبعادهم لم يؤثر على حياتهم الشخصية فحسب، فإن تأثيره السلبي البالغ امتد إلى سير العمل في القطاعات والمؤسسات والإدارات العامة التي يحتاجها مواطنو البلد في كل لحظة لشؤون حياتهم على كافة تراب الوطن. وإنه نتيجة لهذا النهج كذلك، تم استبدال هؤلاء المتخصصين الأكفاء بأشخاص أدنى خبرات وأقل دراية وإخلاصًا. بل وإن الكثير منهم ينتمي إلى دوائر المحاباة والتحالفات السياسية الضيقة التي تروج للرشوة والفساد والشللية على حساب مصلحة الوطن.
وبالطبع فإن هذه التغيرات، التي تسببت في شلل العديد من القطاعات والمؤسسات الحيوية، قوضت كذلك دور الإدارة في تحقيق المصلحة العامة وفرضت على البلاد التراجع في مواجهة تحديات “العولمة” التي تتطلب حكامة رشيدة وفعالة. ففي الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن تتسارع وتيرة التقدم والتحديث، ظهرت عقبات جديدة أضعفت القدرة على مواكبة العصر.
وليس هذا التهميش محصورا في الأطر والإداريين فقط، بل شمل الأكاديميين الجامعيين والعلماء الوسطيين، الذين كان العديد منهم ضحايا الإقصاء بسبب آراءهم المستقلة وتفكيرهم النقدي ودعوتهم الصادقة. فقد دُفعت بعض النخب الأكاديمية إلى المنفى الاختياري، في حين انطفأ وهج البعض الآخر ببطء في ظل تجاهل مستمر لعطاء أفرادها. هؤلاء الذين كان يُنتظر منهم أن يقودوا الأمة نحو التقدم في مجالات التوجيه والإصلاح والفكر والبحث العلمي، أصبحوا ضحايا للسياسات القبلية التي تروج للمصلحة الشخصية والعشائرية على حساب المصلحة العامة.
وفي المجال الإعلامي، تم تهميش الإعلاميين المستقلين الذين حملوا على عاتقهم مهمة إيقاظ الوعي الجماهيري والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. هؤلاء الإعلاميون، الذين عملوا بجد وحرفية لإيصال صوت المواطن البسيط، تم التضحية بهم في سبيل مصالح خاصة، بينما تعززت موجة الاعلام المبتذل الرخيص الذي أسسته إدارتهم وحمته القوى الرجعية لتنفيذ أجنداتها الإقطاعية التحكمية الخاصة. فبدلاً من الإعلاميين الشرفاء، ارتفعت أصوات لا تملك إلا الترويج للمفسدين وإحياء النعرات والحزازات التقليدية وتشويه سمعة المدافعين عن الحقيقة والغيورين على الوطن.
ساهمت هذه السياسة الممنهجة في إقصاء الكفاءات المبدعة وتصفيتها داخل مختلف القطاعات، مما أدى إلى اتساع دائرة النخب والفساد والجهل بالقانون وانتهاك الحقوق. وقد أعاق هذا الإقصاء قدرة المجتمع على مواكبة تطورات الدولة المدنية السليمة، كما أدى إلى تراجع النمو والتقدم. فوجود الأشخاص الذين يفتقرون إلى الكفاءة والضمير يعمق الفجوة بين القيم الإنسانية الحقيقية وبين السياسات التي تكرس الممارسات التي تتسبب في الظلم والتخلف والاقصاء وتدهور القيم. وهكذا تزداد صعوبة بناء مجتمع عادل ومتحضر، قادر على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة.
إن استمرار السياسات التي تروج “للشذوذ المدني والمعرفة السلبية” وتعزز الرداءة والانتهازية لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور. فالمناهج القائمة على المحاباة والفساد تشكل الحاجز الأكبر أمام أي تقدم حقيقي، وما يحتاجه المجتمع الآن هو العودة إلى القيم التي تقوم على النزاهة والكفاءة والعدالة، لكي يتمكن من عبور محنته الحالية نحو مستقبل مشرق.
وإن الطريق الوحيدة للخروج من هذا الركود المزمن يكمن في إعادة الاعتبار للعلماء والأكاديميين والكفاءات الإدارية والتسييرية والإعلاميين الشرفاء الذين تمسكوا جميعهم بمبادئهم.
كما |أنه لا شك أن ذلك يتطلب إعداد بيئة سياسية واجتماعية تعزز حقوقهم وتحترم كفاءاتهم. حينها فقط سنتمكن من تحطيم دائرة الفساد والجهل التي تطوقنا، ونفتح أمام بلادنا ومجتمعاتنا آفاقًا جديدة واعدة من التقدم والازدهار.