ولد أبنو يتحدث عن أوبيرج سعدبوه

في مطلع عام 2023، زرت مدينة أطار رفقة أسرتي. وأنا على خلاف كثيرين، أجد في شتائها سحرا نقيا لا يضاهى، وأستثقل موسم الگيطنة بما فيه من اكتظاظ خانق وحر لاهب لا يطاق.
حين علم بعض أصدقائي وصديقاتي من أبناء أطار، المنتشرين في الخارج، بأني في زيارتها، بادروني بإلحاح: “لا تُغادر قبل أن تزور أوبيرج سعدبوه”، مردّدين بلهجة لا تخلو من الحماسة: “أراهوالك ألا جنة الله في الأرض!”. وكنت أعلم سلفا مدى براعة أهل أطار، وآدرار عمومًا، في الماركيتينگ وفي تسويق الأمور التي تخص مدينتهم وولايتهم؛ فهم مجتمع يتمتع بثقافة غازية وبأريحية نادرة، وانفتاح فطري، ودفء إنساني يُغري بالتواصل. وقد شهد لهم المنصفون بأنهم مجتمع متماسك، إمارتهم كانت الوحيدة في المنطقة ذات طابع ديمقراطي تقليدي، وروح التعايش فيهم متجذرة، والفوارق الطبقية بينهم تكاد لا تُلحظ.
زرت الأوبيرج، فتذكرت أني أعرف صاحبه من خلال مقاطع متداولة على وسائل التواصل، بعضها يدعو للتوحيد والتسليم بالقضاء والقدر، وبعضها الآخر يحث على الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة (الفيديوهات مرفقة).
كان المكان متواضعا .. عكس ما تصور عندي بسبب ما سمعت عنه .. حديقة صغيرة، “تيكّيتين” متجاورتان .. مزرعة فصة .. بضع نخلات .. وبركة ماء مبلطة تستخدم للسباحة أوقات مجيء الزوار، وتخصص لري الخضرة في الأوقات الأخرى.
سعدبوه، بروحه السخية الفطرية، رفض أن يأخذ منا مقابلا. وفي المساء، أرسل إليّ في الفندق قصعة سخية من الكسكس بلحم طيب وكثيف من مطعم تديره زوجته، أو ما يشبه المطعم، ولم يقبل أن يأخذ ثمنه إلا بعد إلحاح شديد مني.
وبعد قرابة العام بلغني -وأنا خارج البلاد- أن الرجل زج به في السجن، على خلفية تسجيل صوتي سُرّب بدهاء، قال فيه مازحا، وفي سياق دعابة اجتماعية مألوفة: “أنا لا أصلي الجمعة”. كانت مكيدة مدبّرة، بعناية. والمفارقة أن مثل هذا المزاح رائج في ثقافتنا الشفوية، لا يُقصد به ازدراء الدين، بل يروى على سبيل الطرافة.
أحد أقاربي، رحمه الله، وكان من أهل الورع والمداومة على الصلاة، كان إذا رآه أحد يصلي الضحى، قال: “إياك مانك شاك عني نتنفل؟! أنا ألا ارگدت عن اصلاة الصبح وما اوعيت ماه ظرك!”، وإذا سُئل: “هل صليت الجمعة؟”، أجاب: “أنا ما أنصلي ماه الظهر العادي، سيْنپلْ الظهر”. وفي رمضان، إن سئل: “هل أنت صائم؟، أجاب: “يخي ألا اسهيت البارح واعگدت النية، ما نعرف گاع اشتميت إلين عدلتها، يغير ضامن لك عن ذا اللي مزال من رمضان مانكفي منو انهار!”، ثم تجده صائما في اليوم الموالي، وحين تعاود سؤاله: “أما قلت إنك لن تصوم؟”، أجابك وهو يفتعل الجدية: “نسيت البارحة وجددت النية، يغير وحدة بعد!”.. ثم يصوم اليوم التالي! ومن الناس من يُؤوَّل سلوكه على أنه “مصروف عن ظاهرتو”، وهو تأويل شعبي شائع في فهم أحوال من يُنظر إليهم كأولياء وصالحين.
فمن قال: “أنا لا أصلي الجمعة” مازحا، غير قاصد للاستهزاء أو الجحود، لا يُكفَّر، وإن وجبت عليه التوبة والاستغفار وترك هذا المزاح الذي يجرح حرمة الدين. أما إن قالها ساخرا بالدين أو منكِرا لفرض من فروضه، فقد ارتكب كفرا مخرجا من الملة، على رأي جمهور العلماء، قياسا على قوله تعالى: “لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان”.
غير أن الحقيقة المؤلمة هي أن سياسة الكيل بمكيالين ما تزال حاضرة بقوة في المجتمع، وأشد ما تكون تجليا في مؤسساتنا الرسمية. ففي حين يلاحَق سعدبوه على جلسة في أوبيرجه، تُترك أوكار القمار ومواخير الدعارة والعهر تجهر بإثمها في نواكشوط، من تنويش ودبي في الجنوب الشرقي، إلى آمورات والتيسير في الشمال الشرقي، حيث يتنافس أبناء وبنات الصالحين على الكسب الحرام، إلى ضفاف المحيط غربا، حيث يتنافس المستثمرون الأجانب مع المواطنين على الاستثمار في الفجور.
أما ما بين هذه النقاط الثلاث، فحدث ولا حرج؛ أحياء ومقاطعات تعج بما يخجل، في صمت أمني مريب.
وقد يُظن أنني أبالغ، لكنني على استعداد، إن كانت لدى الأجهزة الأمنية نية صادقة لمكافحة هذه الآفات، أن أضع بين أيديهم خلاصة عقدين من العمل الصحفي الاستقصائي الذي عجزت عنه بعض أجهزة المخابرات المشهورة بكونها كانت تعذب القط ليعترف بأنه الأرنب الهارب، ويمكن أن أزودهم بخطط دقيقة تغنيهم عن كثير من العناء. ويمكنني أن أزودهم بمعدات التصوير، والتسجيل، وأدوات التصنت المُمَوَّهة والدقيقة والفعالة ، إن عز عليهم توفّر ما لا يجلبه لهم Les fournisseurs ، إن كان رجال الشرطة بسبب طيبتهم، وزهدهم، واعتكافهم في المساجد، لا يعلمون شيئا عن هذه الأمور.

هل تذكرون واقعة الشجار الشهيرة التي وقعت بين عناصر من أشهر رجال الشرطة القضائية، أمام نزل نواكشوط ليلة 11 أكتوبر 2016، حيث تلقى مفوض بارز صفعة على وجهه حين هم بفصلهم، وقد كانت المغربية السهيرة نادية تدير في النزل وكرا للدعارة؟
هل تذكرون كيف أُوقف شرطيٌّ بسبب إلقائه القبضَ على مسؤول كبير متلبسا بفعل فاحش مع بائعة هوى مغربية، وبحوزته “أدوات العملية” ومبلغ العمولة البالغ 80 ألف أوقية؟ .. كتبتُ حينها عن القصة، فانهالت عليّ الاتصالات تطلب مني حذف الخبر، ولم أوافق إلا مقابل إطلاق سراح الشرطي وإعادته إلى عمله، وكان لي ما أردت.
هل تعلمون أن أحد مشاهير العلاقات المخملية، كثير الظهور الإعلامي في القضايا السياسية عبر القناة الرسمية، يملك مكانا على طريق أكجوجت لتنسيق علاقات حميمة لكبار المسؤولين؟ وأن شخصية سياسية أخرى مثيرة للجدل تمتلك وكرا على طريق روصو يُستخدم لاستدراج المسؤولين والفتيات وتصويرهم في أوضاع مخزية بغرض ابتزازهم؟
هل تعلمون أنكم حين تسمعون بخبر “مداهمة وكر”، عليكم أن تدركوا أن من المحتمل جدا أحدُ أمرين: إما أن الإتاوة لم تُدفع، أو أن خلافا بين عناصر الشرطة قد وقع .. يقول المثل: “إذا تصارع اللصوص، خرج المسروق”.

اتركوا سعدبوه.

فلئن عجزتم عن مواجهة الفساد الحقيقي، فلا تجعلوا من هذا الحرطاني المسكين كبش فداء تسترون به عجزكم، وتُسكتون به غضب الناس.

اتركوا سعدبوه.

فلا حاجة لكم بصناعة “بوعزيزي” جديد، فجمرةُ البوعزيزي الأولى قد أضرمت نارا ما تزال ألسنتها تلتهم خرائط، وتسقط أنظمة، وتهوي برؤوس قادة دولٍ كان يمكن أن تبقى على كراسيها لولا تلك الشعلة التي بدّلت ملامح العالم، وأشعلت رياحا ما تزال تعصف بأمنه واستقراره.
فأغلب الويلات التي تعيشها البشرية اليوم ليست إلا شظايا متطايرة من تلك النار التي انطلقت من جسد محترق بسبب ظلم الشرطة، فوجدت في الظلم والغطرسة والاستبداد وقودها الدائم.

اتركوا سعدبوه

فرائحة أفعالكم أصبحت تُزكم الأنوف.

عالي محمد ولد أبنو

زر الذهاب إلى الأعلى