المهدي العلوي: حين يصبح الوطن عقيدة

في أربعينية الراحل المهدي العلوي، نستحضر رجلاً لم يكن مجرد فاعل سياسي عابر في زمن مليء بالتحولات، بل أحد أولئك الذين حملوا همّ الوطن في القلب والعقل، ومضوا في صمت نبيل، تاركين وراءهم سيرة نقية، وتجربة غنية، ومسارًا يستحق أن يُدرّس للأجيال.
لم يكن المهدي العلوي، رفيق درب القادة الكبار: المهدي بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمن اليوسفي، مجرد اسم في قائمة المناضلين، بل كان من جيلٍ تميّز بوعيٍ سياسي عميق، وبحسٍ وطنيٍ صلب لا يتزعزع. جيل آمن بأن النضال ليس مجرد احتجاج، بل بناء، وأن الحرية لا تكتمل إلا بترسيخ دولة المؤسسات، وأن السياسة ليست دهاءً، بل التزام أخلاقي وثقافي قبل أن تكون سلطة أو سلماً للصعود.
في زمن المدّ الاستعماري، انخرط العلوي بكل وعي في دينامية التحرير، وشارك في مظاهرات شعبية طالبت بعودة الملك الشرعي محمد الخامس، وتحلق حوله في منفاه بكورسيكا، مؤمنًا بوحدة العرش والشعب، بوصفها قاعدة الاستقلال وروحه. وحين عادت البلاد إلى أبنائها، لم يتوانَ عن المضيّ قدمًا في معركة بناء الدولة الحديثة، بكل ما تطلبه ذلك من تضحيات، وصبر، ومواجهة مباشرة مع مؤسسات ظلت مشدودة إلى ماضٍ سلطوي.
ولعلّ محطة مؤامرة 1963 تظل من أبرز اللحظات التي تكشف معدن الرجل، حيث تعرّض للاعتقال في سياق سياسي متوتر عقب نتائج مشرّفة حققها حزب الاتحاد، أثارت حفيظة الدولة العميقة. ومع ذلك، لم يكن المهدي العلوي ممّن يسقطون في خطاب الكراهية أو الثأر. حافظ على توازنه النفسي، وواصل الحضور السياسي والفكري بشموخ، متى اقتضى الأمر الحسم، ومتى دعت الضرورة إلى الحوار.
وفي حقل الدبلوماسية، حيث كلفه الملك الراحل الحسن الثاني بمهمة تمثيل المغرب في الأمم المتحدة، حمل العلوي الوطن في صوته، وتاريخه في ملامحه، ومواقفه في هدوئه. لم يكن سفيرًا عادياً، بل كان رجل دولة يملك نَفَسًا وطنيًا طويلًا، قادرًا على الدفاع عن قضايا المغرب المصيرية، وعلى رأسها الوحدة الترابية، بأسلوب متزن، يزاوج بين الحزم والرصانة، بعيدًا عن الشعبوية والانفعال.
لقد عرفه خصومه قبل أصدقائه بصدقه وصفاء سريرته. كان واضحًا في مواقفه، وفيًّا لحزب الاتحاد الاشتراكي، لا يسعى وراء المناصب ولا يلهث خلف الأضواء. ورفض أن يجعل من نضاله السياسي مطية لمكاسب شخصية، فبقي محافظًا على نقاء رسالته، وعلى نَفَسٍ نضالي طويل، قلّ نظيره.
كان المهدي العلوي يربأ بنفسه عن كل استقطاب حاد، وكان صوته دائمًا داعيًا إلى الوحدة، محذرًا من فتنة الانقسام، ورافضًا لكل إقصاء أو تصفية. كان مؤمنًا أن التعدد لا يعني التشرذم، وأن المعارضة الحقة لا تعني التناحر، بل تقديم بدائل وطنية ومسؤولة.
في زمن نفتقد فيه نماذج تُوازن بين الأخلاق والسياسة، بين الانتماء الحزبي والولاء الوطني، يبرز اسم المهدي العلوي كواحد من تلك القامات التي يمكن أن تُبنى عليها ذاكرة وطنية راقية. قامة سياسية، ودبلوماسية، وفكرية، ظلّت وفية للقيم التي تأسس عليها المغرب الحديث.
رحم الله المهدي العلوي، الذي عاش كبيرًا ومات كبيرًا، وترك لنا من سيرته ما يُلهم، ومن نضاله ما يُحتذى، ومن حكمته ما يضيء طريق الأجيال
احمد محمد الامين