الثقافة في المنكب.. بين اغتيال العقل وطغيان الشكل/الولي سيدي هيبه

“الأمة التي تتخلى عن إنتاج الفكر وإكرام الفن وتحرير العقل تحكم على نفسها بالتبعية والاندثار”
“منذ عقود تحول التراث من مصدر إلهام إلى وثن نعبده، ومن سند للابتكار إلى سجن للأفكار”
“سيطرة النخب الوظيفية التي حولت الفكر إلى سلعة والمثقف إلى موظف”
من ينكر أن أزمة المشهد الثقافي الصارخة، في “المنكب البرزخي” والركن القصي، لم تعد مجرد أزمة إنتاج أو إبداع، بل تحولت إلى أزمة وجود. فالانهيار الثقافي – لا تنكره عين من رمد ولا فم من سقم – هو الذي ميع الفعل وسفه العقل وقيد الإبداع، ليس فشلًا في الأدوات أو التقنيات، بل هو انهيار في الرؤية والهوية. فمنذ أزيد من أربعة عقود تئن الثقافة تحت وطأة ثلاثية:
ـ التقديس الأعمى للتراث،
ـ هيمنة الشكل على المضمون،
ـ سيطرة النخب الوظيفية التي حوّلت الفكر إلى سلعة والمثقف إلى موظف.
صنمية التراث: حين يصبح الماضي سجن الحاضر
التراث ليس نصوصًا مقدسةً مُنزلة، بل هو “حوار متجدّد” مع الزمن. لكنّنا حولناه إلى “مومياء” نعبث بها كلّما احتجنا إلى تشريع الجمود. لقد فهم الأجداد التراث كـمنهج تفكير، بينما يتم التعامل معه كـنصوص جامدة.
ففي حين استخدم السلف التراث كأداة عقلانية لتحرير عقولهم النابضة من الجمود ليكيفوا العلم والفكر متطلبات عصرهم وكان يشكو من غياب صارخ لأي نوع من الحكم المركزي الجامع، يستخدم بعض الخلف التراث كأداة قمع وإصرار على الإبقاء على منطق غياب الدولة من خلال الرفض لكل نقد تحت شعار : هكذا كان الأسلاف!
وبالنتيجة يبقى التراث ممسوخا يُستخدم كـ”فزّاعة فكرية” لقتل أيّ اجتهاد تحديثي، بينما يستغل الآخرون كنوزه ويُعيدون إنتاجه تماما كما فعلت أوروبا مع تراث الأمة العلمي في عصر النهضة
المثقفون الوظيفيون: نخبة الاستسلام
وتبقى الحقيقة المرة أن المثقف يعد صاحب الموقف والرؤية، بل أصبح صاحب اللقب والوظيفة. فلقد تم اختزال الثقافة في:
- شهادات في غالبيتها مزوّرة تُشترى ببطاقات الائتمان.
- مؤتمرات وتظاهرات وهمية بعناوين كبيرة تُنظّم لتمجيد القوة الرداءة القاهرة.
- جوائز مُسيسة تُمنح لأصحاب الولاءات لا المواهب.
أمّا المثقف الحقيقي، فقد تحوّل إلى “منبوذ” أو “هارب” (كمن فضّلوا المنفى النفسي الداخلي على مجاراة الرداءة أو التستر عليها).
التظاهرات الثقافية المهرجانات الهلامية.. اقتصاد الوهم
في العالم من حولنا، تُعدّ المهرجانات الثقافية رافعة اقتصادية حقيقية. مهرجان “أفينيون” في فرنسا، على سبيل المثال، يدرّ أكثر من 30 مليون يورو سنويًا، بينما يضخّ “كرنفال ريو دي جانيرو” في اقتصاد البرازيل أضعاف ميزانية بعض وزاراتها. كما تبرز النخب مقدرات بلدانها الفكرية والإبداعية في الإبداع القصصي والروائي والأدبي الملتزم والفنون الرافعة من سينما ومسرح ورسم ونحت.
أما في “منكبنا البرزخي”، فالصورة معكوسة تمامًا؛ بسبب غياب الرؤية الثقافية، وافتقاد آليات التخطيط والتنظيم، تغرق تظاهراتنا الثقافية الباهتة ومهرجاناتنا الهزيلة في الارتجال، تتحكم فيها المحاصصة والمجاملات المبتذلة والمصالح الضيقة.
تُقام فعاليات استعراضية بلا مضمون، وتُهدر الملايين على أضواء زائفة بينما تموت المكتبات وتُهمل المسارح. وتتحوّل هذه التظاهرات المرتجلة والمجاملة وكذلك المهرجانات، التي أصبحت بعدد المدن والقرى، إلى منصات دعائية للنخب الفاسدة، حيث يُكرَّم في ختامها المزيفون ويرفع الماضويون ويُقصى المبدعون الحقيقيون. وإذا بالذي كان يفترض أن يكون احتفالًا بالثقافة، قد تحوّل إلى مشهد زائف يُكرّس التجهيل والبلادة باسم الترفيه ويتحول “الحدث الثقافي” إلى أداة لتجميل الفشل بعيدا عن صناعة الإبداع.
الانتحار الثقافي… خسارة المستقبل
ليست الثقافة ترفًا، بل هي سلاح البقاء. الأمم التي لا تنتج ثقافتها: - تُصبح سوقًا لثقافة الآخرين (الشباب يردد أغاني “كي-بوب” بينما لا يعرف عن ولد احمد يوره شيئًا).
- تفقد هويتها (الشباب الموريتاني اليوم أكثر انجذابًا إلى “الحائط” وما بعده منه إلى “بطولات المقاومة”).
- يحكم عليها بالتبعية (من لا يملك ثقافته لا يملك قراره السياسي أو الاقتصادي).
هل من خلاص؟ مشروع ثقافي جذري
والحقيقة أن إصلاح النظام الثقافي لم يعد يكفي، بل يجب تفكيكه وإعادة بنائه. وبالطبع يتطلب الأمر: - تحرير التراث من الماضوية (قراءة التراث بمنطق العصر، كما فعل طه حسين في “في الشعر الجاهلي”).
- إعادة تعريف المثقف الذي هو ليس حامل لقب، بل صاحب ضمير وفكر حر .
- ربط الثقافة بالاقتصاد (صناعة سينما، نشر، مسرح، كما في مصر الأربعينيات).
- ثقافة الشعب لا للنخب (إعادة الاعتبار للمكتبات العامة والتعليم الفنّي).
الانتكاس الثقافي ليس مجردَ أزمة محلية:
بالطبع ليس الانتكاس الثقافي مجرد أزمة محلية، بل هو انتحار بطيء في زمنِ العولمة والتنافس الحضاري. فالأمم التي لا تُنتج معرفتها الخاصة، ولا تحمي فضاءها الإبداعي، تُجبرُ على استهلاك ثقافة الآخرين، فتتحول إلى مجردِ سوقٍ استهلاكيةٍ بلا بصمةٍ أو إرادة. والأخطر من ذلك، أن هذا التخلف يُغذي دائرةً مفرغةً من التبعية الفكرية والاقتصادية، حيث نصبحُ عاجزين حتى عن إدارة مواردنا التراثية، بينما يستثمرها العالمُ وينتفعُ بها، بينما نحنُ نكتفي بالتباهي بها كأشباحٍ لماضٍ لن يعود.
لم يعد هناك متسعٌ للتردد أو الترقيع. فالتأخر عن الركب الأممي اليوم يعني الغيابَ النهائي عن مستقبلِ الإنسانية. الثقافة لم تعد ترفًا، بل هي سلاحُ وجودٍ في معركة الهوية والتأثير. وإذا لم نستيقظ الآن، فسنصبحُ مجردَ حُطامٍ في متاحف التاريخ، نُذكرُ كأمةٍ كانت، ولم تعد.
ما نحتاجه اليوم ليس استعراضاتٍ ثقافيةً زائفة، بل مشروعًا ثقافيًا وطنيًا جادًا، يعيد الاعتبار للفكر الحر، ويستثمر في الطاقات الإبداعية، ويربط الثقافة بهموم الناس وتطلعاتهم. فالثقافة الحقيقية لا تُصنع بالتقليد الأعمى، ولا بالدعاية الفارغة، بل بالإرادة الصادقة، والرؤية الواضحة، والانحياز لقيم الجمال والحقيقة والحرية.
الثقافة أو الغياب
المشكلة ليست في ضعف الإمكانات، بل في غياب الإرادة. التاريخ لن يرحم شعبا إذا استمر في عبادة الأطلال بينما العالم يبني المستقبل. الثقافة ليست شعارات نرفعها، بل دماء نقدمها لولادة جديدة. فإما أن نصنع ثقافة تحرّرنا، أو سنصبح أثرًا بعد عين في متحف الحضارات البائدة.
حان الوقت للكف عن خداع النفس، وللإعادة للثقافة روحها التي صادرتها المصلحة والجهل. فالأمة التي لا تُنتج فكرا، ولا تحترم فنا، ولا تُقدر عقلا، مصيرها أن تظل في ذيل الأمم