حجارة داوود: شواظ الكتائب.. القرآن يسلب التوراة!

محمد ناجي أحمدو
في الخطاب الإعلامي لكتائب القسام ـ الذراع العسكري لحركة حماس ـ تطفو الرموز الدينية على السطح، واضحة لا تخطئها العين، ولا يتعلق الأمر بفسيفساء بلاغية، ولا زينة شعاراتية، بل باعتبارها خيارات حضارية واستراتيجية، تُستدعى من القرآن الناسخ والمهيمن على الكتب الأولى، وتُعاد صياغتها ضمن طرح تأسيسي شديد التركيب. هي شيفرة لغوية تشكل دعامة تنبني عليها التصورات الكبرى، وترسم بها الحركة لنفسها صورة جيل قرآني جديد، يعيد كتابة النصر المنذور في النصوص.
ومن المفارقة بمكان أن عددًا كبيرًا من هذه الرموز مستل من تاريخ بني إسرائيل، ليس في إطار الاعتراف بحقهم في الأرض أو التاريخ، بل ضمن عملية تقديمهم نموذجًا انتكس، بينما تجسد الكتائب النموذج الباقي الخالد المنتصر، المستحق أهله أن يكونوا الموعودين، الذين ورثوا الرسالة والأرض والنصر بعد أن نُزعت عن أهلها الأولين.
أشهر ما تردده كتائب القسام في إصداراتها المصورة، وكان عنوانًا للأحداث الأولى في الطوفان، وتواتر كثيرًا في خطابات “الملثم” ذات الإخراج الرمزي الثقيل، هو الآية الكريمة: “ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون”
الآية وردت على لسان رجلين من قوم موسى، يحثان بني إسرائيل على دخول الأرض المقدسة، ويعدانهم بالنصر إن اقتحموا الباب.
غير أن القسام تأخذ الآية في اتجاه مغاير: فهي لا تستعيرها لتعزيز ذاكرة العدو بأرض الميعاد، بل لنسف سرديتهم، وتأكيد جبنهم، مقابل الجهاد النبيل الذي تعيد به الحركة الحبل الموصول بالوعد الرباني. الباب هنا ليس باب أريحا ولا أسوار القدس، بل هو كل معبر إلى قلب الاحتلال، والنصر مشروط بالاقتحام، لا بالتردد.
ومن ذلك استلال اسم عمليات “حجارة داوود”، التي أطلقتها القسام ضد الاحتلال، وشملت جلادًا خارقًا بلغ أوجه في الأيام الأخيرة، وهو اسم يحمل دلالة شديدة التركيب. فداوود، في النص التوراتي والقرآني، كان قبل أن يختاره الله للنبوة والملك، جنديًا عاديًا، لكن الله مكنه من أن يسقط جالوت (المسمى في التوراة جليات) ـ رمز الجبروت ـ بحجر من مقلاعه.
باستدعاء “داوود”، لا تعترف القسام بالسردية العبرية، بل تسلبها بطلها ورمزها، وتدخله ضمن سجلها المقاوم. فالمقلاع ليس هو مقلاع الراعي الإسرائيلي القديم، بل هو سلاح بأيدي ملثمين، غير مدججين بالسلاح، لا يعتمرون الخوذ، ولا يلبسون الدروع الواقية، وإنما سلاحهم إيمانهم وجسارتهم. وهم بذلك الوارثون الحقيقيون لداوود، وهم أبناؤه الإيمانيون، لا العرقيون.
هي مفارقة رمزية تستدعي التأمل، فالسردية الإسرائيلية تنقلب وتصبح نبوءة إسلامية، وتغدو حجارة داوود نذيرًا لجالوت العصر المدجج بالدروع والميركافا، والذي يزعم أنه امتداد داوود، ويقاتل تحت راية رسم عليها ما سماه “نجمة داوود”.
في خرجات الملثم كثيرًا ما يُستشهد بهذه الآية:
“فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار”
وهي آية من سورة الإسراء، وسورة الإسراء مرتبطة بالصراع، تتحدث عن عقاب بني إسرائيل عبر تسليط “عباد لله” يجوسون خلال ديارهم، وقد أولتها حماس مرارًا ـ في أدبياتها، وبيانات المتحدث أبي عبيدة ـ بأنها نبوءة عن المقاومة الإسلامية في فلسطين.
وهنا تتحول الحكاية من “شعب الله المختار” إلى “عباد الله المختارين”، ويصبح المجاهد الملثم هو الامتداد الحقيقي لذلك البأس، لا الملك البابلي ولا الغازي الآشوري، بل هو الجيش الرباني المسدد الذي سيفتح المقدسات كما فُتحت من قبل، ويطهر الأرض من الخيانة بعد أن دنسها الجبن والقتل وبيع الأنبياء.
وفي إطار الاستلال الممنهج والسلب المدروس عن سبق إصرار، لا يمكن تجاهل شعارات الفيديوهات التي تنتجها القسام في إصداراتها العسكرية، حيث تُكتب بخط عربي مذهب، وتُصاغ بلغة توراتية الطابع ولكن بلسان قرآني. تُستخدم فيها كلمات كـ”جالوت”، “أريحا”، “الهيكل”، “الرجس”، “وعد الآخرة”، وغيرها.
وتُرسم سينوغرافيا المشهد بعناية: أنفاق كأنها متاهة بني إسرائيل، إذ تاهوا في الأرض أربعين سنة، مقاتلون يبدون كالأنبياء والقديسين، على وجوههم وميض من الألق، أقنعة لا تنجح في إخفاء النور الذي تحاول ستره، وأعداء يظهرون أذلة صاغرين مشدوهين. كل ذلك يرسم مشهدية دينية مشحونة برسائل مبطنة.
كتائب القسام لا تُنازع اليهود في نبوءاتهم فقط، بل تعيد كتابة هذه النبوءات بأدوات “الجيل القرآني” كما تحب أن تسميه. تُوظف التاريخ لتقويض شرعيته التوراتية، وتستعير رموزه لتكريس “إرث النبوة” في أرض النزال.
فمن الباب الذي إن دخلوه غلبوا، إلى الحجارة التي تقلب الموازين، إلى البأس الشديد الذي يجوس خلال ديار “المغضوب عليهم”… كل ذلك لا يقف عند حدود البلاغة، بل يُستثمر في تعبئة الجماهير، وتبرير المواجهة، ورسم حدود جديدة للهوية.
وهكذا، يصبح التاريخ التوراتي أرضًا معادة التفسير، لا تُقرأ كما يقرؤها المحتل، بل كما يريد المجاهد أن يُسقطها على الواقع: حيث لا يكون النصر نصًا مقدسًا محفوظًا، بل فعلًا حاضرًا، تُعيده القسام إلى الحياة، بندقيةً بعد بندقية، وآيةً بعد آية.