ينمو الإصلاح كما ينمو البشر والشجر.. حكايات السقوط والنهوض

الإصلاح، في جوهره، ليس قرارا طارئا ولا مغامرة عابرة، بل مسار طويل يتطلب صبرا وحكمة وفهما عميقا لطبائع الأشياء. فهو، شأنه شأن الإنسان والحيوان والشجر، ينمو في بيئته الطبيعية وفق سنن راسخة، ولا يحتمل التعسف في تسريعه. فأي محاولة لفرض إيقاع مصطنع على وتيرة نموه تنتهي غالبا بعواقب وخيمة، إذ لا يُجنى من استعجال قطف الثمار قبل نضجها إلا المرارة والسمّية.
وقد شهدنا في تاريخنا الحديث عدة مرات أمثلة صارخة لدول كانت تشق طريقها نحو التطور بخطى تدريجية ثابتة، غير أن شعوبها انساقت وراء شعارات حماسية أو استُدرجت بتدخلات خارجية مغرضة، فاقتُلعت أنظمتها قبل أن تكتمل ملامح البدائل. وما لبثت أن تهاوت في أزمات أعنف مما كانت عليه؛ فمصر، على سبيل المثال، التي كانت تتحسن ديمقراطيتها الناشئة رويدا رويدا وانتقلت من نظام الاستفتاء على الرئيس إلى نظام الانتخابات التعددية، ومن برلمان الاتجاه الواحد إلى برلمان فيه نسبة من التنوع السياسي، ومن الإقصاء الكلي للمعارضة آلى مشاركتها، هاهي اليوم وقد عادت عقودا كثيرة إلى الوراء في مجال الحريات وإلى معاناة أدهى في الفقر المدقع، وانهيار العملة، وتردّي الخدمات. وتونس، وإن اختلف السياق في حجمه وتوقيته، فقد سارت على نهج قريب، وكان مآلها لا يقل خطورة. أما اليمن وليبيا ومالي وبوركينا فاسو، فقد كان نصيبها أشد مرارة، إذ غرقت في الحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة، حتى صارت مسارح للفوضى وانهيار الدولة.
وليس التاريخ الأوروبي ببعيد عن هذه الدروس. فقد حاول الإسبان في ثلاثينيات القرن الماضي الثورة، وحققت حركتهم انتصارات أولية، لكنها انكسرت سريعا، لتحكم البلاد يد الدكتاتور الجنرال فرانكو بقبضة من حديد ستة وثلاثين عاما (من 1939 إلى 1975)، إلى أن أسلم الروح على سريره وقد جاوز الثمانين. ومع ذلك، فإن إسبانيا اليوم، بعد مسار طويل من التدرج السياسي والاجتماعي، صارت واحدة من أرقى الديمقراطيات الأوروبية، دون أن تبلغ ذلك عبر الثورة، بل عبر البناء الهادئ المتراكم.
وينسحب الأمر نفسه على دول أوروبية أخرى انتقلت إلى الديمقراطية بسلاسة وتدرج؛ فهي اليوم أكثر نماء وعدلا ومساواة من فرنسا التي عرفت ثورة ملتهبة أحرقت من جاءت لإسقاطهم، ثم انكسرت تحت وطأة دكتاتوريات جديدة كانت أشد بطشا من سابقيها. وإلى اليوم، ما تزال فرنسا تعاني من إخفاقات كبيرة في مجال العدالة والحريات إذا ما قيست بجاراتها اللواتي اخترن طريق الإصلاح الهادئ والمتزن.
وفي مقابل هذه الأمثلة المأساوية، يسطع في إفريقيا والعالم العربي نماذج مشرقة لدول استطاعت سلطاتها وشعوبها تسيير خلافاتها وامتصاص الهزات دون أن تنزلق إلى هاوية الانهيار الشامل. فالمغرب، مثلًا، نجح في المواءمة بين استقرار مؤسساته وانفتاحه التدريجي نحو إصلاحات سياسية واقتصادية، فغدا نموذجا للتوازن بين الأصالة ومتطلبات العصر. والسنغال، رغم تحدياتها الجسيمة، ما زالت تحافظ على مسار ديمقراطي متماسك جعل منها واحة استقرار في غرب إفريقيا. أما دول الخليج، فقد استثمرت استقرارها السياسي لتبني اقتصادات عصرية تتنوع تدريجيا بعيدا عن النفط، وتسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ حضورها على الساحة العالمية. وجنوب إفريقيا، على الرغم من إرثها المثقل بالفصل العنصري، تواصل تقدمها بثبات نحو ترسيخ وعي مجتمعي أرقى وبناء مؤسسات أكثر عدلا وديمقراطية.
إن هذه التجارب المتنوعة، على اختلاف سرعاتها وتجلياتها، تشهد بأن الإصلاح الحق لا يولد من رحم الانقلابات المفاجئة ولا من الفوضى، بل من التدرج الواعي، ومن قدرة الشعوب على امتصاص الصدمات، ومن حلول داخلية تنبع من إرادة المجتمع وحكمة قياداته. فتلك هي الطريق الأقصر، وإن بدت أطول، نحو العدالة والاستقرار والنماء المستدام .
علي ولد ابنو