عام الانعطاف الواثق: من التأسيس إلى التثبيت../ محمد ناجي أحمدو

في السنة الأولى من المأمورية الثانية، بدا مبضع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وكأنه يأسو جراح جسم الوطن ويداوي أسقام الخريطة، لا بتهور المدعين، بل بأناة وحذق وخبرة الأساة العارفين، الذين يدركون أن البناء الراسخ لا يقوم على بهرجة الظواهر، بل على رسوخ الأساس.

 ما غره لمعان اللحظة، ولا استدرجته جلبةُ المزايدين. كان يغوص إلى الأعماق، حيث ترسى الجذور وتثبت القواعد، في صمت هو عين الحكمة، وفي تصميم هو الإيمان باستحقاق الوطن واقعا مغايرا.

طُوِيَت صفحة التأسيس، وبدأ زمن التثبيت. ما عادت الشعارات رداءً يُخفي عورات العجز، الكلمات المطمئنة لا تكفي لإرواء المدن التي عطشت دهراً إلى الماء والكهرباء، ولا لستر خجل العاصمة أمام أعين زوّارها.

كان لزاما على الدولة أن تكون، وأن تخرج من غلالة الصمت والخمود، وأن تواجه تراكم العقود المهملة، لا بالاعتذار ولا بالتبرير، بل بالفعل الصارم، والمواجهة المسؤولة.

شبكات المياه التي أنهكها الدهر، وأنابيب الكهرباء التي أكلها صدأ الإهمال، لم تعد تُعالَج بضمادات وقتية. لقد اتُّخذ القرار بأن زمن الترقيع قد ولّى، ولو ترتبت على ذلك انقطاعات موجعة في وهج الصيف، فإن مرارة الدواء كثيرًا ما تكون الثمنَ اللازم للشفاء الحقيقي.

اليوم، لا تُرمم الشبكات فحسب، بل تُعاد صياغتها من الجذور. شبكة نواكشوط العتيقة وجدت من يُنصت لأنينها، وآفطوط الساحلي تمدد كأوردة حياةٍ جديدة، وإديني تقطف نصيبها من الاهتمام لتسقي ما كان ظمآنا في شرق العاصمة وشمالها. الحفر العميق يتكاثر، لا ليبلغ جوف الأرض فحسب، بل ليبلغ عمق المعاناة وضمأ السنين.

وليس إيصال الماء هو الغاية وحدها، بل استدامته، ونقاؤه، وعدالته.

 دخلت موريتانيا زمناً جديدًا تتراجع فيه الأعذار، وتعلو فيه راية التخطيط والكفاءة، تتسيد فيه العشوائية الحكامة، ويُستبدل التسيير المتروك للزمن بالسيادة على التفاصيل.

الخدمات لم تعد امتيازًا يتكرم به أحد، بل تسعى الدولة لتكريسه حقًّا أصيلًا تؤديه لمن هم في ذمتها.

نواكشوط، تلك المدينة التي طالما غفت على وسادة الرمل، واستيقظت على زحام الفوضى، تدبّ الحياة من جديد. لا ضجيج يُراد منه الاستعراض، ولا استثمار في البهارج، بل خطوات عمليو متسارعة واثقة تنبئ عن تحول عميق.

جسورٌ تقهر غلواء الزحام، شوارع لبست من جديد حلّة النظام، أسواق أعيد ترتيب أنفاسها، وميادين كانت بالأمس غبارًا، صارت اليوم نُزهات تنمو في ظلها الحدائق وتتنفس فيها الأرواح.

لم يكن التغيير في الحجر فحسب، بل تعداه إلى ما هو أعمق: روح العاصمة بدأت تُنظم نفسها، وتتمدد لتشمل من ظلت أطرافها منسية في خرائط النقل والخدمة.

 النقل الحضري العمومي صار أكثر اتساعًا وعدلاً وراحة، والتخطيط العمراني شرع في كسر المركزية، التي كانت تلتهم الحلم عند بوابة كل حيّ مهمَّش.

وفي كل هذا، لم يكن الرئيس يستعير صوت الخطباء، ولا يتقدّم الموكب بقبضة مرفوعة، بل جعل الإنجاز يتكلم. الرجل لا يرى الحكم مديحًا يتغنّى به، بل مسؤولية يُقاس فيها القادة بما أنجزوا، لا بما خطبوا. فالعبرة ليست بالصورة، بل بالأثر. ليست بالمشهد، بل بالتحوّل.

سنة واحدة مرّت، لكنها كانت أثقل وزنًا من عقود تقطعت فيها الوعود وتراخت فيها الأيادي.

سنة كتبتها موريتانيا بلغة الفعل، لا بتقعر الإدعاء.

إذا كان الزمن هو الفيصل بين الأوهام والحقائق، فإن إشارات هذه السنة تُومض بأن المأمورية الثانية ليست نزهة بين الكلمات، بل سباق جاد مع التاريخ. اليد التي تمسك بالمقود اليوم ليست غريبة عن الطريق، وهي لا تعد الشعب بمستحيل، بل تعده بما يجب: بدولة… تعرف واجبها، وتؤديه.

زر الذهاب إلى الأعلى