المُحاور كقنّاص أو كقربان .. هندسة الاستجواب بين الصحفي والسياسي/ عالي محمد ولد أبنو

في المشهد الإعلامي المعاصر، لا تترك القنوات التلفزيونية شيئا للصدفة حين يتعلق الأمر باختيار من سيتولى محاورة ضيوفها من السياسيين؛ فالأمر أقرب إلى هندسة مسرحية مدروسة منه إلى حوار صحفي حر.
فإذا أرادت القناة تلميع صورة الضيف وإبرازه في هيئة القائد المهاب الواثق المتمكن المسيطر، دفعت به إلى حضن مقدم طري العود، وقليل الخبرة، وضعيف الشخصية، ومنخفض التكوين، ومحدود الحيلة، وحديث العهد بالمهنة، وتلقنه مسبقا دروسا في اللطف وفضائل خفض الجناح لمن هم أكبر منه سنا، وتقبّل تلقي الإهانات منهم ، فينحصر دوره في طرح الأسئلة كما لو كانت رسائل مديح مغلّفة، بما يضمن تمرير الخطاب المراد تسويقه بسلاسة ودون اصطدام فيتحول اللقاء إلى جلسة مجاملة مصوّرة أكثر منه مواجهة إعلامية.
أما إذا كان هدف القناة هو تحطيم الضيف وتقويض مصداقيته ومكانته ونسف خطابه ونزع بريقه فإنها تُطلق عليه مقدِّما محنكا، شرس الأسلوب، يملك مهارات استثنائية في آليات توجيه النقاش، وبارعا في فنون إرباك الضيوف، ومتمرسا في أساليب تشتيت أفكارهم، وقلب الطاولة عليهم، وتحويل مسار الحوار ودفعهم إلى مواقف الدفاع، بعد أن يكون هذا المحاور قد أجرى دراسة معمّقة لشخصية الضيف، شملت تاريخه السياسي، ونقاط ضعفه، وخلفياته النفسية، والظروف المحيطة به، وأخطائه، وهفواته، وحتى زلات لسانه القديمة الموثقة بحيث يتحوّل الضيف، أمام عدسات الكاميرا، إلى لقمة سائغة في يده.
وهكذا يدخل الضيف الاستوديو ظانا أنه في لقاء تلفزيوني طبيعي، ليكتشف متأخرا أنه مجرد محكوم عليه بالإعدام؛ مكبل وأعزل في ميدان رماية مكشوف وتحت رحمة قناص ماهر أُعدت له أهدافه بعناية.
وهكذا، تتحول الهندسة الإعلامية إلى أداة مُتقنة في صناعة الرأي العام وتدجين الوعي السياسي، حيث تُدار عقول الجماهير بنفس الدقة التي تُدار بها زوايا الكاميرا وإضاءة الاستوديو. فالضيف ليس سوى قطعة على رقعة شطرنج كبرى، والمقدم ليس دائما صحفيا بقدر ما هو ذبيحة تُقدم لإكرام الضيف وإعلاء شأنه، أو كاسرا مفترسا لافتراسه وتمريغ أنفع في الطين وتحطيم صورته؛ فهو أُعد من فريق يمتلك خطة واضحة وهدفا محددا. وما يظنه المشاهد حوارا حرا أو مواجهة فكرية، ليس في الغالب سوى عرض مسرحي مموه، تتداخل فيه الإيماءات المدروسة مع الأسئلة المحسوبة، وينتهي دائما إلى النتيجة التي أرادها المخرج منذ اللحظة الأولى. إنها باختصار، عملية إعادة تشكيل الواقع في ذهن المتلقي، لتبقى الحقيقة رهينة أهواء من يدير اللعبة، لا من يملك الحجة والحقيقة.
فوسائل الإعلام الحقيقية لا تترك شيئا للصدفة؛ فهي أدوات حرب وقتال، ناعمة تتحرك تبعا لأجندات خفية.

زر الذهاب إلى الأعلى