الكون 25.. حين تحولت جنة الفئران إلى مقبرة .. / عالي محمد ولد أبنو

في صيف عام 1968، وفي أروقة المعهد الوطني للصحة العقلية بالولايات المتحدة، كان عالم الأحياء والسلوك الأمريكي “جون ب. كالهيون” يرسم على الورق مخططا يبدو للوهلة الأولى وكأنه حلم مثالي لمجتمع بلا جوع ولا خوف ولا أعداء.
لكن ما لبث أن تحول هذا الحلم إلى كابوس علمي هز أركان النقاشات الأكاديمية والفلسفية حول الإنسان والمجتمع والحضارة. هذه التجربة التي عرفت لاحقا باسم “Universe 25 – الكون 25″، لم تكن مجرد دراسة على الفئران، بل كانت أشبه بمرآة داكنة تعكس احتمالات قاتمة لمصير المجتمعات إذا أغرقتها الوفرة وأعجزتها الراحة.
بيئة مثالية.. تصميم “جنة” للفئران
ابتكر كالهيون حاوية معدنية ضخمة، بدت كمدينة مصغرة ذات نظام اجتماعي مصمم بدقة.
- المواصفات: 256 مكانا للتعشيش، طعام لا ينفد، ماء متجدد، نظام تهوية مثالي، وحماية من الأمراض والأعداء.
-الطاقة الاستيعابية: نظريا تصل إلى 3840 فأرا. - عدد البداية: ثمانية فئران فقط (أربعة ذكور وأربع إناث).
هكذا توافرت للفئران كل مقومات “الفردوس الأرضي”: لا صراع على الغذاء، لا خطر من الخارج، لا حاجة للكد ولا جهد للنجاة.
المراحل الأربع .. من الازدهار إلى الفناء ..
لم تمض التجربة عبثا، فقد سجل كالهيون بدقة تطور “المجتمع الفأري” عبر أربع مراحل متتابعة:
1- مرحلة الاستيطان (اليوم 0 – 104)
الفئران تستكشف المكان، تؤسس أعشاشها الأولى، وتبدأ بالتكاثر. كانت السلوكيات في معظمها طبيعية، بل أقرب إلى الانسجام.
2- مرحلة النمو السريع (اليوم 104 – 315)
بدأ عدد الفئران يتضاعف كل 55 يوما تقريبا. بحلول اليوم 315 وصل العدد إلى نحو 600 فأر. بدا وكأن “اليوتوبيا” الفأرية تؤتي ثمارها.
3- مرحلة الركود (اليوم 315 – 560)
هنا حدث التحول المفصلي. مع وصول العدد إلى قرابة 2200 فأر، تراجعت معدلات الولادة بشكل حاد.
- الذكور: صارت أكثر عدوانية، تتقاتل بلا سبب وجيه.
- الإناث: هجرت صغارها، وبعضها هاجم صغار إناث أخريات.
- طبقة جديدة: ظهرت فئة سماها كالهيون الجميلات (The Beautiful Ones)؛ وهي عبارة عن ذكور انسحبوا من التنافس والتزاوج، واكتفوا بالأكل والنوم وتنظيف فرائهم، بلا أي دور اجتماعي أو أبوي.
4- مرحلة الانهيار (اليوم 560 – 1588)
مع تآكل البنية الاجتماعية، انخفض الإنجاب إلى الصفر تقريبا.
- آخر ولادة سُجلت في اليوم 920.
-آخر فأر مات في اليوم 1588 (1973). - انتهت التجربة بانقراض مجتمع كامل رغم وفرة الغذاء والمسكن.
الموت السلوكي.. مصطلح يثير الرعب ..
أطلق كالهيون على ما شاهده اسم “Behavioral Sink” أي الموت السلوكي. لم يكن الموت نتيجة جوع أو مرض، بل نتيجة انهيار في العلاقات الاجتماعية والأدوار الطبيعية. حين فقدت الفئران معنى السلوك الجماعي، وانهارت مسؤوليات الأمومة والذكورة والحماية، أصبح الموت البيولوجي مجرد تحصيل حاصل لانتحار اجتماعي بطيء.
تكرار التجربة .. نفس النهاية . “Universe 25” لم تكن تجربة يتيمة، بل جزء من سلسلة. كرر كالهيون وفريقه تجارب مماثلة أكثر من 25 مرة. وفي كل مرة، ورغم تغيير بعض الشروط، كانت النتيجة واحدة؛ مجتمع ينهار من الداخل بعد المرور بنفس المراحل، حتى الوصول إلى العدم
من الفئران إلى البشر .. هل المقارنة جائزة؟
أثار كالهيون عاصفة فكرية. هل يمكن أن تكون هذه التجربة نبوءة لمصير الإنسان في المدن الحديثة؟
المتشائمون: قالوا إن التجربة تكشف أن الوفرة المطلقة والاكتظاظ يقودان حتما إلى الانهيار، وأن الحضارات البشرية لن تكون استثناء.
المتحفظون: أكدوا أن البشر يختلفون جوهريا؛ إذ لديهم لغة وثقافة ودين ومؤسسات قادرة على تجديد الأدوار الاجتماعية وتجاوز الأزمات.
الوسط: اعتبروا أن التجربة ليست قدرا حتميا، لكنها تحذير بليغ من مخاطر فقدان التوازن بين الوفرة والجهد، بين الراحة والتحدي.
قراءة فلسفية ..
اللافت أن التجربة تتجاوز حدود البيولوجيا إلى أسئلة أعمق:
هل يمكن للإنسان أن يعيش في جنة أرضية بلا عمل أو صراع أو ندرة؟
هل التحديات والحرمان جزء من طبيعة بقاء المجتمعات؟
أليس في معاناة البشر، paradoxically، ما يمنحهم أسباب البقاء والاستمرار؟
صدى قرآني ..
يجد القارئ في هذه التجربة صدى مدهشا لآية قرآنية جامعة:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ
الآية تشير إلى أن الوفرة المطلقة ليست بالضرورة رحمة، بل قد تكون بابا إلى البطر والفساد. وهذا بالضبط ما رآه كالهيون في “الكون 25” الوفرة تتحول إلى لعنة.
دروس للمجتمعات الحديثة
التوازن ضرورة: الوفرة وحدها لا تكفي، بل تحتاج المجتمعات إلى تحديات تحفظ ديناميتها.
الأدوار الاجتماعية أساس البقاء: انهيار دور الأبوة والأمومة والحماية كان بداية الانقراض في مجتمع الفئران.
الاكتظاظ خطر صامت: المدن البشرية الكبرى قد تواجه أمراضًا اجتماعية شبيهة إن لم تُعالج مشكلات العزلة واللاعدالة والفراغ.
القيم والمعنى: ما يحمي الإنسان ليس الطعام وحده، بل المعنى، والهوية، والمسؤولية.
الخلاصة ..
تجربة الكون 25 ليست مجرد قصة عن فئران حُبست في قفص، بل أسطورة علمية معاصرة تنذر بأن الحضارات لا تموت بالجوع فقط، بل قد تموت من التخمة والراحة.
وهنا تتجلى المفارقة الكبرى، وهي أن الحياة، لكي تستمر، تحتاج إلى قدر من الحرمان والتحديات، تماما كما تحتاج إلى الخبز والماء. وبينما يملك الإنسان أدوات أعمق من الفأر لتجديد حضارته، فإن الدرس يظل حاضرا، وهو أن الراحة المطلقة ليست طريقا إلى السعادة، بل إلى الانقراض.