كيف يجوع شعب يملك نهرًا وبحرًا؟ مفارقة الوفرة والعوز/الولي سيدي هيبه

الفقر نتاج خيارات وليس قدرًا محتومًا
يختزل هذا السؤال مفارقة كبرى تواجه العديد من المجتمعات: كيف يمكن للغنى الطبيعي أن يترافق مع الفقر المُدقِع؟ إنها ليست معضلة اقتصادية فحسب، بل هي بالأحرى أزمة نموذج في الحكم والإدارة والإرادة الجماعية.
اليابان: النموذج المضاد الاول
لتجاوز فخ “القدرية الجغرافية”، تنبثق اليابان كنموذج إيضاحي مذهل اتبعته من بعد دول عديدة
فبدلاً من النفط أو المناجم، اعتمدت على موردها البشري الأكثر ثراء:
- الانضباط،
- أخلاقيات،
- العمل المتقن،
- التعليم.
حوّلت الهزيمة في الحرب العالمية الثانية إلى محرك لإعادة البناء، مطلقة “معجزة اقتصادية” جعلتها قوة عظمى دون أن تمتلك تحت أرضها إلا القليل. لقد أثبتت أن ثروة الأمم الحقيقية تكمن في عقول أبنائها ونظامها المؤسسي، وليس فقط في باطن أرضها.
الفقر: نتاج خيارات وليس قدرًا محتومًا
من الخطأ الفادح اعتبار الفقر قدرًا لا مفر منه. إنه، في حقيقة الأمر، نتيجة تراكمية لسياسات بشرية، اجتماعية وثقافية وسياسية. وإذا كان الفقر المادي قابلاً للمعالجة بالاستثمار، فإن “أسباب الفقر” هي الأكثر استعصاءً، لأنها تشل إرادة التغيير ذاته. وأبرز هذه الأسباب:
- انحسار المرتكز التاريخي: الأمم التي تفتقد لرواية تاريخية ملهمة، تستمد منها قيم المثابرة والعمل والهوية، غالبًا ما تعاني من انعدام الرؤية المستقبلية. المفارقة أن العديد من الدول الفقيرة تسبح على بحيرات من النفط والغاز والمعادن، لكنها تفتقر إلى “رأس المال الرمزي” الذي يمنحها الإرادة لتحويل هذه الموارد إلى قوة. في المقابل، بنت سويسرا إمبراطوريتها المالية على الثقة والكفاءة، في بلد لا تمتلك سوى الجبال.
- غياب فكرة “الدولة”: الدولة ليست مجرد مبانٍ حكومية وشعارات، بل هي عقد اجتماعي قائم على العدل، سيادة القانون، والشفافية. عندما يغيب هذا المفهوم، يتحول الوطن إلى مزرعة خاصة لفئة متنفذة، ويتبخر شعور المواطن بالانتماء، مما يقضي على أي أمل في تنمية حقيقية.
- وباء المحسوبية والفساد:
في غياب دولة المؤسسات، تزدهر شبكات المحسوبية والولاءات العصبوية (القبلية، الطائفية، العائلية) على حساب الكفاءة. تُخصخص المصلحة العامة لصالح مصالح ضيقة، مما يؤدي إلى تآكل الدولة من الداخل، وخلق هوة سحيقة بين أقلية مستفيدة وأغلبية مُهمَّشة. - الكسل البنيوي والذهني: هذا هو الداء الأخطر. الكسل ليس فقط جسدياً (التقاعس عن العمل)، بل هو ذهني بالأساس. إنه رفض لإعمال العقل، والخوف من الابتكار، والرضا بالسائد والمألوف. مجتمع يفتقر إلى الحراك الفكري والإبداع يصبح أسيرًا للجمود، عاجزًا عن إنتاج أدواته للتكيف والتغيير، مما يجعله يتخلف عن ركب الحضارة.
موريتانيا: النموذج الحي للمفارقة
تمثل موريتانيا مثالاً صارخًا على هذه المفارقة؛ فسواحلها من أغنى مصائد الأسماك في العالم، وأراضيها تحوي كنوزًا من الحديد والذهب والنفط والغاز، إضافة إلى إمكانيات زراعية وافرة. ومع ذلك، تظل معدلات الفقر والأمية مرتفعة. العلة ليست في شح الموارد، بل في فساد الآلية التي تديرها: غياب الرؤية الإستراتيجية، هيمنة المحسوبية، وتحول السلطة من أداة لخدمة الشعب إلى غاية في ذاتها لخدمة النخب.
ما هو الحل؟ نحو مشروع وطني يعيد تعريف الدولة
تجاوز هذه المأزق التاريخي يتطلب مشروعًا وطنيًا جامعًا يقوم على:
إعادة تكوين النخب: بروز قيادات جديدة واعية ومسؤولة، تنتمي لمستقبل البلاد وليس لمصالحها الضيقة، بدلاً من النخب المتواطئة مع التخلف والفساد.
- وضع الإنسان في القلب: يجب أن تكون السياسات التنموية متمركزة حول بناء المواطن وتعليمه وتمكينه، وليس حول مجرد مؤشرات اقتصادية جافة.
- إعادة تأسيس “فكرة الدولة”: بناء مؤسسات قائمة على الجدارة والنزاهة والكفاءة، حيث يكون القانون هو السائد والمواطن هو المستفيد.
- ثورة ثقافية وفكرية:
تقويض ثقافة الاتكالية والريع، ونشر قيم الإنتاجية والإبداع والمبادرة، والاستثمار الجاد في رأس المال البشري كأغلى مورد على الإطلاق.
فشل النخب
يتضح في الأخير أن الجوع وسط الوفرة ليس لغزا محيرا، بل هو نتيجة منطقية لفشل النخب، وغياب العدالة، واستمرار ثقافة الاستسلام وإطفاء شعلة العقل. ومع ذلك، يبقى الأمل ممكنًا متى استعاد المجتمع وعيه، واستعادت السياسة دورها الخادم للصالح العام، وأدرك الإنسان أنه الصانع الأساسي لمصيره، وليس مجرد متلق سلبي للقدر.