الدولة والقبيلة: تداخل الأدوار وتحديات البناء السياسي/الولي سيدي هيبه

لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي ومستدام في موريتانيا دون تجاوز البنية القبلية للعقلية السياسية، ودون بناء دولة مؤسسات حقيقية تكون فيها المواطنة – وليس القرابة – هي الرابط الأساسي بين الفرد والسلطة”
لا تزال الحياة السياسية في موريتانيا تعاني من أزمة بنيوية عميقة، تتجلى في هشاشة الخطاب السياسي وضبابية التوجهات الأيديولوجية للأحزاب. فباستثناء محاولات خجولة، تغيب المشاريع الفكرية والرؤى المجتمعية الواضحة، وبدلا عنها تتعارك تحالفات هشة قائمة على المصالح الشخصية الضيقة والانتماءات القبلية والجهوية. ليست هذه الظاهرة، التي يمكن وصفها بـ”أزمة النخبة” أو “الفراغ الأيديولوجي”، عارضًا عابرًا بل هي انعكاس لغياب مفهوم الدولة في الأذهان والسلوك ككيان جامع وهيمنة العقلية القبلية على الوعي الجمعي.
يعاني مفهوم الدولة في التجربة الموريتانية الحديثة من ضعف كبير في التمثُّل والتمكين، على المستويين المؤسسي والذهني. فالدولة، بوصفها كيانًا مؤسسيًا يُنظّم العلاقات السياسية والاجتماعية بناءً على سيادة القانون والمواطنة المتساوية، لا تزال غائبة أو مُغيَّبة. بدلاً من ذلك، تتحرك السلطة في فضاء غير مؤسَّس، يغيب فيه الفصل بين العام والخاص، وتُختزَل فيه الدولة في شخص الحاكم أو في أجهزة أمنية وإدارية تفتقد للمساءلة ولا تعمل بالضرورة في إطار المصلحة العامة.
في الفراغ الذي خلفه غياب الدولة، تبرز القبيلة لتملأ الفراغ ليس بوصفها إطارًا اجتماعيًا طبيعيًا فحسب، بل كفاعل سياسي مهيمن. فالتنظيمات الحزبية لا تُبنى على أسس أيديولوجية أو طبقية، بل تتشكل وفقًا لخرائط الانتماء القبلي والجهوي. نتيجة لذلك، تتحطم مفاهيم مثل “الحزب الوطني” و”البرنامج السياسي” و”التنافس الفكري” على صخرة الولاءات الأولية، حيث يُنظر إلى الزعيم السياسي بصفته “وجيهًا” أو “زعيم قبيلة” أكثر من كونه قائدًا لمشروع مجتمعي.
وينتج عن هذه البنية حالة من السيولة السياسية المفرطة، حيث تشهد التحالفات الحزبية تقلبات مستمرة لا علاقة لها بالتحولات الفكرية أو التقييمات الموضوعية، بل ترتبط بموازين القوى ومتغيرات المصالح الضيقة. فكثيرًا ما يغلب السياسي نزعة “الانتجاع” لديه فينتقل من حزب إلى نقيضه دون تردد أو مراعاة الوازع الأخلاقي أو الزاجر الديني أو المانع الوطني أو المبرر الأيديولوجي الواضح، وكثيرًا ما كل حزب خطابًا تقدميًا ثم محافظًا في منعطفات قصيرة. هذه المرونة غير المبدئية تجعل من العملية السياسية مجرد مسرح للتمثيل، فتفتقد المصداقية والعمق، وتقوض ثقة المواطن في العمل الحزبي والنظام الديمقراطي برمته.
وبالطبع فإن التغلب على هذا المأزق يتطلب تجاوز الشكل الإجرائي للديمقراطية (كالتعددية الحزبية والانتخابات الدورية) إلى إعادة تأسيس العقد الاجتماعي على أسس فكرية رصينة، وإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة كمشروع حضاري جامع وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال:
- ترسيخ مفهوم المواطنة كأساس وحيد للانتماء والحقوق والواجبات.
- إصلاح النظام التربوي لبناء وعي مدني جديد يتجاوز الانتماءات ما قبل الوطنية.
- تكوين نخبة سياسية جديدة قائمة على الكفاءة، مؤمنة بالمشروع الوطني، وتتمتع بالاستقلالية الفكرية والجرأة في الطرح.
- بناء أحزاب سياسية مؤسساتية ذات خطاب رصين وبرامج واضحة وهياكل ديمقراطية داخلية ومساءلة صارمة، بعيدًا عن الزعامات الفردية ومانعة للانتجاع النفعي.
وفي المحصلة، فإنه لا يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي ومستدام في موريتانيا دون تجاوز البنية القبلية للعقلية السياسية، ودون بناء دولة مؤسسات حقيقية تكون فيها المواطنة -وليس القرابة-هي الرابط الأساسي بين الفرد والسلطة. على الأحزاب السياسية أن تنتقل من منطق الانتهازية المرحلية والموسمية إلى فضاء الفكرة والمشروع المؤسسين لثوابت القيام والبقاء، كي تعبّر حقً عن طموحات الشعب وليس عن مصالح النخب. وإلا، فستظل الديمقراطية ناقصة، والسلطة غنيمة يتنازع عليها المتنفذون.