المنكب القصي … من حلم القيم إلى نفق الضياع / الولي سيدي هيبه

إنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا
كانت القصائد العصماء تتغنى بهذه البلاد، والرحالة يصفونها بأنها أرض الحياء والعلم والشعر وعرفها بعضهم بـ”أرض الملثمين من الحياء”، و”بلاد الشناقطة”، فيما أطلق عليها البعض الأخر “موطن المليون شاعر”. لقد كانت مرآةً لمجد أخلاقي وفكري وثقافي قل نظيره، تُشرق فيها شموس القيم الإسلامية، وتُؤتى من أطرافها ثمار المعرفة والنبل.
لكن بات اليوم – و يا للأسف – هذا “المنكب القصي” يتخبط في مستنقع التناقضات، ويغرق في مهاوي الضياع والانحدار في سقوط حر، لا تمسكه يد، ولا تنير له بصيرة. حتى صح فيهم قول الشاعر:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
وفي خضم هذا المشهد القاتم، يسارع البعض إلى سبّ الوطن، وكأن اللوم يوجه إلى الجغرافيا أو إلى الرمال الممتدة على أطرافه. متناسين أن الأرض لا تخون، وأن السماء لا تغدر، وأن العلة كل العلة في عقول وسلوك ساكنيها. وكما قال الشاعر عمرو بن الأهتم السعدي:
لعمرك ما ضاقت أرض بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
إن الكارثة الحقيقية لا تكمن في عوام الناس، بل في النخبة المتعلمة، التي كان يُنتظر منها أن تفتح نوافذ الأمل، وتضيء دروب التقدم، فإذا بها تسد الأفق، وتطفئ النور، وتكرّس ظلمات “اللا دولة”.
تلك النخبة، التي كان يُفترض أن تكون طليعة الإصلاح وبوصلة التغيير، انساقت سريعاً خلف القبلية والجهوية، وانخرطت في شبكات الزبونية والمحسوبية، فصارت أداةً للنهب بدل أن تكون معول بناء، وأصبحت عبئاً على الوطن بدل أن تكون قاطرته.
لقد باعت ضميرها في سوق المصالح الضيقة، وتماهت مع فسادٍ مستشرٍ لا يردعه دين، ولا يمنعه وازع وطني، ولا حتى حسٌ أخلاقي بسيط. ولأنها تمادت في انحرافها، فقد أظلمت العقول قبل أن تفرغ الجيوب، وأطفأت الأمل قبل أن تقتلع جذوره من صدور الناس.
إن الخروج من هذا النفق الطويل، الذي تأقلم معه الناس حتى بات مألوفاً، لا يكون إلا عبر قطيعة جذرية مع هذا الواقع المشوّه. لا بد من ثورة أخلاقية وسلوكية، تعيد الاعتبار لمفاهيم:
ـ العدالة بدل الوساطة،
ـ الجدارة بدل المحسوبية،
ـ المواطنة بدل الانتماءات الضيقة،
ـ والدين الحق قولا صادقا وفعلا متبعا.
فالأوطان لا تُبنى بالهروب إلى الوراء، ولا بالإصرار على اجترار فشل الماضي، وإنما بالتحرر من ربقة الجاهلية الجديدة التي ترتدي ثوبا يحاكي الحداثة أحيانًا، وثوب الورع الزائف أحيانا أخرى.
عندها فقط، يستعيد الشعب زمام المبادرة، ويخرج من نفق “اللا دولة” المستوطنة النفوس والسلوك إلى فضاء الدولة المدنية العادلة، التي تليق بتضحياته، وتُعبر عن طموحاته، وتمنحه ما يستحقه من كرامة ويرنو إليه من أمل.