حين كان أحد زعماء الانقلاب خادما في بيتنا .. / عالي محمد ولد أبنو

التاريخ أحيانا يختبئ في تفاصيل البيوت والمدن والقرى الصغيرة، ثم ينفجر فجأة في وجهك من لاشيء كما لو كان انفجار Big Bang تكوّن من نقطة عدمية؛ حين تدرك أن من كان يكنس فناء بيتك ذات صباح، كاد قبلها أن يكنس نظاما دمويا كُتب له أن يبقى قرابة نصف قرن يتنفس فوق صدور الناس.
كانت مدينة نواكشوط ككائن حي يتنفس ببطء، يفتح عينيه مع الفجر ويغفو مع آخر خيوط الغروب.
نواكشوط في أوائل الثمانينيات كانت مدينة بطيئة الإيقاع، تنام باكرا وتصحو على صياح الديكة ونداءات باعة الحليب فجرا. الرمال سيدة المشهد، تكسو الطرقات وتغزو البيوت بلا استئذان، والريح القادمة من البحر تعبث بأبواب منزلنا فتصدر صريرا يذكّرنا أننا نعيش على أطراف الصحراء الكبرى.
في ذلك المساء الشعباني كانت شمس نواكشوط تميل إلى المغيب، والريح القادمة من البحر تعبث بالرمال على الطريق الرملي أمام منزلنا، وقفتُ عند الباب، طفلا صغيرا بذاكرة حادة ويقِظة، قابضا على يد أخي محمد بدي أطال الله بقاءه، حين توقفت سيارة الوالد البيجو 504 البيضاء التي يعلوها غبار السفر والتي عاد بها نفس اليوم من داكار قبل أن يغادر بها بعد المقيل يبحث عن عامل منزلي، فرمضان على الأبواب. ترجل والدي أحمدو – رحمه الله – بخطوات ثابتة، وبجواره رجل أسمر البشرة، عريض المنكبين، يتفحّص الأفق بنظرات حذرة كأنما يبحث عن طمأنينة ضائعة. ابتسم ابتسامة عريضة، ومد يده ليداعب رأسي، فارتجف جسدي الصغير، لكني بادلته الابتسام.
دخلنا إلى الصالة حيث كانت والدتي فاطمة حفظها الله. قدّمه لها قائلا:
“قال إن اسمه روسي، وإنه من الكاميرون، جلبته من أمام مكتب مفتشية الشغل” ( كان يتجمع هناك العمال الباحثون عن عمل كما الكنيسة في وقت لاحق)
جلس روسي على حافة الأريكة بخشوع غريب، وجلسنا نحن حوله نحدق فيه بفضول الطفولة. كانت عيناه لامعتين بريقهما آسر، وصوته هادئ عميق النبرة. روى قصته بصوت خفيض والوالد يترجم:
“كنت أدرس في ألمانيا .. وفي طريقي للعودة إلى الكاميرون مررت بالمغرب، لكن حقيبتي سُرقت ومعها جواز سفري وتذكرتي. تنقلت من مكان إلى آخر حتى وصلت هنا. أريد أن أعمل لأجمع ما يكفي للعودة.”
كان يتقن الفرنسية والإنجليزية والألمانية حسب قوله. لم يكن يعرف لغات مألوفة مثل الولوف ولا البولار، لكن ابتسامته وحدها كانت تكسر أي حاجز بيننا.
مع أذان المغرب، دعاه والدي إلى الصلاة. توقّف روسي لحظة ثم صرح أنه ليس مسلما، وأضاف معتذرا أنه ينحدر من عائلة مسيحية، وأن في منطقته الكثير من المسلمين، ملمحا إلى أنه لم يكن يهتم كثيرا بالأديان”
دعاه والدي للإسلام وبلا جدال وافق دون اعتراض، ولقنه الشهادتين اللتين نطقهما بصعوبة؛ فقد كان روسي دبلوماسيا بامتياز ولا يريد تعكير جو إقامته بيننا.
ومنذ تلك الليلة، صار جزءا من طقوسنا اليومية، يصلي خلف الوالد متعثرا في الجلوس، ونحن الأطفال نكتم ضحكاتنا ونرمقه بفضول، فيلتفت إلينا بابتسامة خجولة، وكأنه يقول: “سامحوني، أنا أتعلم فاصبروا عليّ”.
بعد يومين حلّ رمضان 1404، وكان فاتحُه يوافق فاتحَ يونيو 1984. فتحول المنزل إلى خلية نشاط؛ أصوات الملاعق في المطبخ، الشوربة ورائحة الخبز الطازج، التمر المرتب على الصحون،ا لضيوف يزيدون بوميا على العشرين، منهم المقيم الثابت ومنهم المؤقت والعابر .. صوت القرآن من المذياع الكبير في الصالة. بصوت محمد الأغظف ومحمود الحصري .. صام روسي معنا لأول مرة، وشاركنا السحور والإفطار بروح طفولية بريئة.
كانت والدتي ترسله إلى الجيران ببعض الفطور، فينحني بأدب جمّ، ويتناول الأطباق بكلتا يديه، لا يمد يدا واحدة أبدا. كان لا يأخذ شيئا من الكبار مهما كان صغيرا إلا وهو مثني الركبتين، مادا كلتا يديه في وقار، ولا يسلّمهم شيئا إلا بالطريقة ذاتها، كأنما يضفي على أبسط الحركات طقسا من الاحترام والتهذيب كأنه يقيم شعيرة مقدسة.
وفي أحد الأيام، رآه أخي محمد الأمين – أطال الله بقاءه – يمضغ شيئا فقال له:
- ألست صائما؟
- بلى.
- وما هذا الذي في فمك إذن؟
- حلوى.
فضحك محمد الأمين وقال: “تمضغ الحلوى وأنت صائم؟” فرد روسي ببساطة مذهلة:
- كنت أظن أن الصوم عن الأشياء الكبيرة فقط!
كنت أصغر العائلة يومها، ولم يكن عبد الحي قد وُلد بعد. بدأت أتعلم من روسي أولى كلماتي الفرنسية القليلة : Donne-moi، tais-toi، silence.
كان إخوتي يتعلمون منه منهجيا، أما أنا فكنت أحب تقليد طريقته المهذبة في أخذ الأشياء بكلتا يديه.
كان قوي البنية، بعضلات مشدودة وبشرة ناعمة نظيفة. كان يرفعني عاليا ويقذفني إلى الأعلى حتى أرى سطح المنزل وأنا أصرخ وأضحك في آن واحد، ثم يتلقفني في ضحكة عريضة دون أن أتأذى أو أتضرر. علمني أنا وأخي الأقرب أحمد لحبيب كيف نصنع الهاتف البدائي من علبتيْ ياوور وسلك مدهون بالصابون (وعرفت لاحقا أثناء الدراسة أن الصابون كان يقلل تشتت الموجات الميكانيكية في السلك لتتحول مرة أخرى إلى موجات صوتية في الهواء ويصل الصوت واضحا)، وكنت أرى في عينيه بريق مخترع وهو يشرح لنا كيف ينتقل الصوت عبر السلك مثل مسافر يقطع طريقا طويلا.
اليوم الأسود
لم يكن روسي يفارق مذياعه الصغير؛ فهو ملتصق طول الوقت بأذنه يغدو به ويروح، ولم أسمع منه موسيقى ولا أغاني، فقط نسرات الأخبار. وفي يوم مشؤوم، كان جالسا في الفناء، المذياع على أذنه، فرمى المذياع فجأة من يده، وأطلق صرخة مدوية، ثم دخل غرفته وأغلق الباب على نفسه. بكى طيلة اليوم. وبعد عودة الوالد زوالا طرق الباب محاولا فهم مشكلته ومواساته، ففتح ودموعه لم تجف بعد، وقال بصوت متهدج:
“عائلتي أُعدمت كلها.”
خيّم الصمت على البيت تلك الليلة، وكأن حزن روسي تسلل إلى قلوبنا جميعا. ومع ذلك واصل حياته بيننا، يضحك ويمازحنا ويصلي خلف والدي، لكن شيئًا في عينيه تغيّر، كأنه يحمل جرحا لا يلتئم.
أصبح يزوره بعض الرجال من بلده ويجتمعون معه وقتا طويلا؛ من ضمنهم فولاني نحيف كثير الصلاة والتنفّل والدعاء يُدعى حاميدو، وآخر هاوساوي ضخم الجثة جهوري الصوت يُدعى جمعة، كنت أسمعه أحيانا ينادي روسي باسم “بيتون”. كانوا يتحدثون همسا لوقت طويل.
قضى معنا قرابة السنة ولم يكملها، ثم قرر فجأة المغادرة قائلا إنه وجد عملا أفضل في مطعم يسمى “مطعم الأندلس” يقع على شارع كندي بجانب سوق السبخة ومطل على سوق الميناء. عمل فيه فترة وأظن أنه في النهاية أصبح يديره. صار كثير الزوار، وكنت أشاهده هناك، تتحلق حوله مجموعة من أكثر من عشرة رجال، أحاديثهم جدية أحيانا تنخفض أصواتهم وأحيانا تعلو في جدل.
وفي يوم من الأيام هرولت مع أصدقائي نحو مطعم الأندلس بعد أن بلغنا أن العسكر قد حاصروا المكان. تعسكرت المنطقة، أحاطتها سيارات سوفمگ للجيش، وسيارات الدرك والشرطة من كل جانب. تم القبض على الجماعة، أخرجوهم مصفدين، ورأيت روسي بينهم يبتسم ابتسامته الهادئة المعتادة، وصدى خطواته على الرمل يسير نحو سيارة الشرطة حتى غاب الموكب عن أنظارنا في الأفق. بكيت كثيرا وبقيت ذكراه حيّة في قلبي حتى اليوم.
أصداء البعيد: الكاميرون وانقلاب 1984
في الطرف الآخر من إفريقيا اللعينة، كان الكاميرون يغلي بالأحداث. فقد وُلد أحمدو أهيدجو، أول رئيس للكاميرون، عام 1924 في غاروا شمال البلاد لعائلة مسلمة من الفولان، بدأ حياته كساعي بريد قبل أن يدخل السياسة ويصبح نائبا ثم وزيرا، حتى قاد مفاوضات الاستقلال مع فرنسا عام 1960 ووحّد الكاميرون الفرنسي والبريطاني عام 1961. حكم بقبضة حديدية، وحوّل البلاد إلى نظام الحزب الواحد عام 1966، وقمع تمرّدات الاتحاد الوطني، وحافظ على استقرار اقتصادي جعل الكاميرون واحة هادئة في سبعينيات إفريقيا.
استقال فجأة عام 1982 بعد أن أقنعه طبيبه الفرنسي بأن حياته في خطر وأن عليه التخلي عن السلطة مؤقتا، فاستقال وسلم السلطة لرئيس وزرائه بول بيا، الرئيس الحالي، وهو مسيحي من قبيلة بيتي (Beti) التي تنتمي إلى الكتلة الأوسع المعروفة باسم إيووندو (Ewondo) أو فانغ-بيتي-بولو (Fang-Beti-Bulu).
شكل بيا الحكومة في عامي 1982 و1983 بالتشاور مع أحمدو أهيدجو، إلا أنه سرعان ما أحكم قبضته على السلطة، فسيطر عام 1983 على رئاسة الحزب الحاكم الاتحاد الوطني الكاميروني، ثم أجرى في 18 يونيو/حزيران 1983 تعديلا وزاريا عيّن عبره حلفاءه دون إبلاغ أهيدجو، مما أغضب الأخير الذي دعا وزراء الشمال إلى الاستقالة. والتاريخ دائما بعيد نفسه وفي كل مكان وزمان.
كان أهيدجو قد عاد من الاتحاد السوفيتي حيث أجرى فحوصا طبية أثبتت سلامته، وأكدت أنه يعاني فقط من القولون العصبي، فتأكد من أنه تعرض لمؤامرة استخباراتية دفعته للتنازل عن الحكم. عاد إلى الكاميرون لكن علاقته بخلفه ساءت وتوترت، وفي 22 أغسطس/آب من العام ذاته أعلن بيا اعتقال أشخاص مقربين من أهيدجو بتهمة “التآمر على الدولة ومحاولة الإطاحة بالسلطة” ، فهرب أهيدجو إلى السنغال.
في السادس من إبريل 1984 اندلعت محاولة انقلابية نفذها الكولونيل الفلاني إبراهيم صالح، قائد الحرس الجمهوري الموالي للرئيس المستقيل أحمدو أهيدجو، صحبة ضباط آخرين من الفولان والهاوسا. وكان من بينهم ضابطان مسيحيان: الرائد بيير بيتون قائد قوات النخبة الكاميرونية خريج الكلية العسكرية في ألمانيا الغربية كانت تسمى كلية القيادة والأركان للجيش الألماني (Führungsakademie der Bundeswehr، FüAkBw)، وهي المؤسسة التعليمية العليا للقوات المسلحة الألمانية (البوندسوير) ، وهو منحدر من قبائل الكيردي (Kirdi) – وهي تسمية جماعية يطلقها الفولان على الشعوب غير المسلمة في الشمال، ومعناها حرفيا “الكفار”، وتشمل عشرات الإثنيات مثل الموفو، والماسي، والماندارا، والموجو، والمافا، والكوتوكو وغيرها. ويتركز الكيردي في جبال ماندارا ومنطقة الشمال الأقصى (Extreme-Nord)، قرب الحدود مع نيجيريا وتشاد، وكثير منهم كانوا يتبعون أديانا تقليدية إفريقية، وبعضهم اعتنق المسيحية لاحقا، وعلاقتهم مع الفولان تاريخيا لم تكن ودية فقد كانوا ضحايا حملات الجهاد الفولاني في القرن التاسع عشر، حيث تم استعباد الكثير منهم ودمجعهم في قومية الفولان بعد إسلامهم أو دفعهم إلى الجبال، لذا علاقتهم بالفولان اتسمت بالتوتر والندية.
أما النقيب غيراندي مابارا غولونغو الذي ينتمي إلى إثنية الباسا في إقليم الساحل (Littoral) حول مدينة دوالا، وهي مجموعة بانتوية مسيحية في غالبيتها اشتهرت بتاريخها الثوري ومعارضتها للاستعمار الفرنسي وكانت من أوائل من حمل السلاح في الخمسينيات ضمن حركة UPC، فقد انضم إلى الانقلاب رغم أنه لم يكن هو أيضا مسلما ولا من الحرس الجمهوري وإنما من قوات المدفعية، لكنه تعاطف مع الانقلابيين لأسباب ليست دينية، إذ لم يكن الصراع ذا خلفية دينية أو إثنية خالصة، بل كان صراع مصالح ونفوذ، إذ كان بول بيا يحاول تهميش بعض القيادات العسكرية أغلبها من الشمال المسلم ولكن أيضا فيها بعض عناصر الجنوب.
أما قائد الانقلاب الكولونيل إبراهيم صالح كان حفيد الفقيه موديبو آداماوا مؤسس إمارة آدماوا في القرن التاسع عشر.
استمرت المحاولة ثلاثة أيام اندلع خلالها قتال عنيف في العاصمة ياوندي، استخدمت فيه الدبابات والأسلحة الثقيلة.
سيطر الانقلابيون في البداية على أغلب المواقع، لكن القوات الموالية لبول بيا استعادت المبادرة حين نجح الجنرال المسيحي بيير سيمنجو – الذي كان حينها رئيس أركان القوات المسلحة – في النجاة من الهجوم على مقرّه وجمع قواته، وبدأ هجوما مضادا صحبة الجنرال جان نغانسو سونجي والعقيد أكونو هيرمان الذي حاول الانقلابيون في البداية استمالته.
فشل الانقلاب وأُعدم المئات من المشاركين فيه بعد محاكمات عسكرية سريعة، بينهم الكولونيل إبراهيم صالح.
نجا ضابطان من الانقلابيين من الأَسْر هما الرائد بيير بيتون الذي فرّ إلى موريتانيا قبل أن تسلّمه للكاميرون بعد سنة من اختفائه ويُعدَم، والنقيب غيراندي مابارا غولونغو الذي فر إلى بوركينا فاسو ثم إلى فرنسا حيث أكمل دراسته الأكاديمية ونال دكتوراه في العلوم السياسية عام 1997 من جامعة باريس ديكارت تحت إشراف باسكال شانيّو، ثم عمل في مجالات العلاقات الدولية والاستشارات وألف مجموعة من الكتب تحلل أسباب فشل الانقلاب وأوضاع الجيش الكاميروني. لكنه عاد إلى بوركينا فاسو وهناك تقارير عن اختفائه بعد ذلك، ويرجح أنه اختُطف أو قُتل سرا، ولا توجد حتى اليوم تأكيدات رسمية عن مصيره.
أما أهيدجو فقد حوكم وحُكم عليه بالإعدام غيابيا بعد أشهر من محاولة الانقلاب، وعاش في المنفى حتى وفاته في 1989 بالسنغال.
وأما بول بيا فما يزال يتربع على كرسي رئاسة الكاميرون، أقدم رؤساء العالم عهدا بالسلطة، وأكبرهم سنا، إذ بلغ اليوم الثانية والتسعين من عمره وسبعة أشهر واثني عشر يوما، وما زال يمسك بمقاليد الحكم كأنه قدر لا يشيخ.
وهكذا، فإن الكاميرون التي بناها أحمدو أهيدجو كانت أكثر استقرارا وازدهارا، أما كاميرون بول بيا، رغم طول حكمه، فقد أنهكتها الأزمات والفساد حتى صار الناس يحنّون إلى زمن أهيدجو كأنه العصر الذهبي الضائع.
رحم الله قائد قوات النخبة الكاميرونية، روسي / بيير بيتون، فقد كان من طينة الرجال النادرين الذين يولدون مرة في كل جيل. لكن تلك إفريقيا اللعينة، لا تنمو في أرضها الخصبة إلا نباتات الشوك والنباتات المرة أو المالحة، أما الزهور فهي نادرة الوجود فيها، وإن وجدت فهي لا تعيش طويلا.