الباب الدوار / الولي سيدي هيبه

ليست المأساة أن يكون في الناس “منافقون”، بل في أن يتصالح هؤلاء مع نفاقهم ويألفوه حتى يطمئنوا إليه، وكـذلك في أن يفقد القبح قبحه رغم طليه بألوان العادة، فيرى جميلا في الأعين التي اعتادت العتمة.
من أغرب عجائب النفس البشرية في بلاد التناقضات الكبرى والمنكب القصي الذي أهدى البشرية موسوعة نادرة في فن التلون، أن ترى أغلب الناس يرقصون فوق حد السيف بين شعورين متناقضين دون أن يختل لهم ميزان أو ترمش لهم أجفان. بل يبدون وكأنهم ولدوا وفي قلوبهم غرفتان متقابلتان، إحداهما للفضيلة والأخرى للرذيلة، ينتصب بينهما باب دوار يدخلون ويخرجون منه بمهارة لاعب السيرك البهلواني، حتى لكأن الشاعر أحمد مطر عناهم بقوله:
يكذبون بمنتهى الصدق،
ويغشون بمنتهى الضمير،
وينصبون بمنتهى الأمانة،
ويخونون بمنتهى الإخلاص،
ويدعمون أعداءهم بكل سخاء،
ويدمرون أوطانهم بكل وطنية،
ويقتلون إخوتهم بكل إنسانية.
ولا غرابة! فهؤلاء، عجيبو الصنعة، يضحكون وهو ينهشون، ويبكون وهم يصفقون، ويستعينون بالدين كما يستعين المرابون بسبحتهم، يتباركون بها وهم يضاعفون الاحتيال والربا. ينامون على وسادة من الوعظ المبتذل والعزة الخداعة ليستيقظوا على صفقة من الغدر.
إنه نفاق لا يعرف الخجل؛ يحول الدين إلى زينة في الجيب، والمروءة إلى شعار مطبوع على لافتة انتخابية أو حفلة تزلف أو مهرجان تمهيدي لدعاية سياسوية. يجلسون على موائد الوطنية كسادة التزام وكشيوخٍ ورع، فإذا ما أُسدل الستار نهضوا ليتاجروا بوطنهم في السوق السوداء.
تراهم يلقون خطبا عن الإصلاح، ثم يضيفون بندا جديدا للفساد، يلعنون الجهل صباحا ويقودون جيشه بعد الظهر لمحاربة العقل بالغنائيات والسرديات الملحمية، يسبون التخلف في الإعلام، ثم يخططون لدفن كل بذرة للعلم كي لا يفسد عليهمٍ سوق الخرافة والعنتريات الاسطورية الموزونة.
لقد بلغ بهم التناقض حد العبقرية حتى باتوا يزرعون الشوك في الطريق ثم يبيعون الحذاء المبطن، يعلقون القفل على باب التقدم ثم يتقاضون أجرة الحراسة، يحاربون الظلم بظلم أدهى منه، ويقترحون على المريض علاجا هو داء مضاعف.
هؤلاء لا يعانون من ازدواجية الضمير، لأن الضمير، أصلا، هجرهم منذ أول وهلة؛ فصاروا يمضون في مسرحية الأخلاق بأقنعة تتبدل مع أضواء الخلفيات المبتدعة والزوايا المظلمة. وإذا قام التفتيش عن بقايا الخجل في وجوههم وجد مكانه ابتسامة باردة تطمئن أن كل شيء على ما يرام، وأن الخراب مجرد مشروع وطني قيد الإنجاز. ولعل السؤال الحقيقي إلى هذا الحد يكون:
ـ لماذا ينافق الناس؟ ثم:
ـ كيف يصمد الإنسان في عالم لا يكافئ الصدق حين يضيق الواقع عن الحقيقة، يضطر الضمير إلى ارتداء قناع، لا لينجو فحسب، بل ليظل قادرا على التنفس. هكذا يتحول النفاق من رذيلة إلى وسيلة بقاء، ويتحول الصدق إلى مغامرة غير مضمونة العواقب.
غير أن الإنسان، مهما طال مقامه في الزيف، يظل يحمل في أعماقه حنينا إلى صفائه الأول؛ ذلك الوميض الخافت في باطن القلب، الذي يذكره بأن الحق لا يغيب، بل ينسى مؤقتا، وأن أبواب التوبة ليست دوارة كأبواب النفاق، بل ثابتة لا تفتح إلا نحو الداخل.
ليست المأساة أن يكون في الناس منافقون، بل أن يألفوا نفاقهم حتى يطمئنوا إليه، وأن يفقد القبح بشاعته حين يطلى بألوان العادة، فيرى جميلا في أعين اعتادت العتمة.
وحين يحدث ذلك، يصبح الصمت لغة، والخداع سياسة، والحياء ضعفا، وتفقد الكلمات معانيها كما تفقد المرايا وضوحها حين تلفها الأبخرة.
وربما كانت النجاة الحقيقية في أن يجرؤ المعتكفون في محراب الصدق يوما على الوقوف على عتبة هذا الباب الدوار دون أن يدخلوه، فيروا العالم يدور حولهم وهم يحافظون على خط رفيع من الصدق، دقيق كالشعرة، لكنه متين وراسخ رسوخ الإيمان. فكل خراب في الأرض يبدأ بكذبة صغيرة، وكل نهضة تبدأ بصدق القادرين على التعبير عنه.