“كورونا” بين حفظ النفس وحفظ الدين
حدامي محمد يحي
الموريتاني : بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإن الباري جل وعلا قال في محكم كتابه : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وقد عم وباء “كرونا” العالم كله ، وحين ظهر في بلاد الإسلام طرح إشكالات فقهية جديدة ، اقتضتها المرحلة “وقاية واحترازا” ، فخاف الناس المصافحة والجماعة ، وتورع الطبيب المسلم فلم يصرح بالتخلف عن الجماعة ، وإن أشار إلى التحفظ من التجمعات .
وقد كتب علماء الشناقطة عن الموضوع ، وسلكوا دروبا مختلفة فمنهم من قدم ضرورية “حفظ الدين” على حفظ النفس ، ومنهم من قدم ضرورية “حفظ النفس” على الدين ، وهذا التقديم جاء استقراء للفتاوى الراهنة.
ونظرا لأن الطريق العلمي أضحى معبدا لكل سالك ، أردت تدوين خاطرة وبسطها لأهل الشأن الذين ارتووا من نهر الشرع الزلال والله أسأل الإخلاص والتوفيق .
يقول الشاطبي : (( اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس -وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل- وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد)) الموافقات
والناظر في كتابات العلماء القدامى والمحدثين حول ترتيب المقاصد الخمسة يجد أنهم لم يتفقوا على ترتيب معين في تلك المقاصد ، وذلك لاختلاف زاوية الترتيب ، فمنهم من قدم الضرورات الدينية على الضرورات الدنيوية ومنهم من قال بعكس ذلك .
قال التاج الدين السبكي في شرح المنهاج ):( ثم الضروري قد يكون دينيا وقد يكون دنيويا ، وعند تعارضهما يلاحظ أن بعض العلماء يرى تقديم الضروري المتعلق بالدين على الضروري المتعلق بالدنيا ، لأن الأول ثمرته السعادة الأبدية ، والثاني ثمرته السعادة الفانية ، وذهب بعض العلماء إلى القول بتقديم الضروري المتعلق بالدنيا على الضروري المتعلق بالآخرة ، وذلك لأن حق الآدمي مبني على الشح والمضايقة ، وحق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة ، ولهذا كان حق الآدمي مقدما على حق الله تعالى لما ازدحم الحقان في محل واحد ، وتعذر استيفاؤهما منه كما يقدم القصاص على القتل في الردة ، والقطع في السرقة ، كذا الدين على زكاة المال .))
فمن رأى أن المقصود بالدين الإسلام قدم الدين على سائر المقاصد ، لأن بضياعه يضيع أصل العقيدة ، ومن قال إن المقصود العبادات المحضة قدم غيرها كالنفس مثلا ومن هؤلاء الرازي قال في محصوله : ((المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل )).
أما الآمدي فقد قدم حفظ الدين على النفس ، معتبرا أن تقديم النفس إنما يحصل في فروع لا في أصل وكأنه اتفق مع الآخرين في ثمرة ترتيب النفس أولا ، فقال :((وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه، وفروع أصل غير أصل الشيء، ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف، وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقا، بل يفوت إلى خلف وهو القضاء، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا، وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين؛ ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده، وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره)).
قلت : فخذ رعاك الله هذه القواعد الكلية والجزئية التي اعتبرت حفظ النفس وأنزلها على الواقع الوبائي لترى واقعية الفتاوى الجديدة التي راعت الحال ودعت للأخذ بالأسباب ، فعطلت الجمعة والجماعة اضطرارا لا اختيارا .
هذه سطور جمعتها من كتب قليلة فسد النقص ، واستر الزلل وساهم في التوعية .