الحديث بيان التنزيل!! / الحسن مولاي اعلي

يطلق مصطلح “السنة المطهرة” ومرادفه “الحديث الشريف” في عمومهما، على ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة؛ وقد ظلت منزلة السنة من القرآن الكريم، وموقعها من سلم التشريع الإسلامي، ومكانتها بين أصول الأحكام، ومنذ فجر التاريخ العلمي للأمة، ظلت مثار موجات عاتية من الجدل والمراء والخلاف، تفاوتت في سخونتها، وكانت دامية أحيانا، وقد شكلت حالات الجزر القليلة التي تخللتها، مراسي آمنة لمراكب الطوائف والفرق والملل والنحل.
في أيامنا هذه يتجدد الجدل والمراء، الظاهر والخفي، بين المشائخ والعلماء والأئمة والدعاة، وبين الأساتذة والمدرسين، وأجاويد طلبة الدراسات الإسلامية والخريجين،(ولكل منهم مدوناته ومواقعه وصفحاته على منصات التفاعل والتواصل) يتجدد الجدال بينهم-إذن- حول الخلافات القديمة والجديدة، المرتبطة بتلك الأقوال والأفعال والتقريرات والصفات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما يطال ذلك الجدل والمراء، بطبيعة الحال، مجمل العناوين الكبرى في متن كتاب الأمة وسجل تراثها الزاخر..
الأمر ليس بدعا، فقد قطع الإنسان في عصره الحاضر شوطا بعيدا في سبر أغوار المعرفة، واستحدث العديد من وسائل وأدوات الفكر والنظر، ووضع قواعد ناظمة ضابطة لإعادة التمحيص – بعلم-في مجمل مباحث العلوم الإنسانية؛ ومن هنا، فالخصومة الهادئة والساخنة محتدمة بين الباحثين والخبراء، والطلبة والدارسين، والمؤلفين والمراجعين، والمهتمين بالمعارف البشرية، من مختلف الثقافات، وبشتى الدوافع والأهداف والغايات،
من حيث المبدأ، لم يكتب الحديث أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد زجر عن تدوين ما سوى القرآن؛ ثم بعد جمع المصاحف، كانوا يتناولون مرويات، تكاثرت بشكل لافت أيام الفتنة الكبرى، والجبرية التي آلت إليها، حيث نشطت الأكاذيب والمرويات الموضوعة، دعما لموقف ما أو تيار ما، ومع الزمن وظروفه وتقلباته، بادر بعض علماء التابعين وتابعيهم، بجمع ما استطاع من الحديث، وتوج ذلك الإمام مالك بكتابه الموطأ الذي جمع فيه ما اطمأن إليه من مرويات وفتاوى الصحابة والتابعين، ومكث في تأليفه أربعين سنة، فكان أول كتاب يتداوله المسلمون بعد كتاب الله.
في عصور التدوين ونشاة العلوم الإسلامية، ظهر علم الرواية، بالضوابط المختلفة التي وضعها شيوخ الفن، متمثلة في ما عرف بمصطلح الحديث، فكان الميزان الذي خضعت له ملايين المرويات، فتساقطت آلاف الروايات كأوراق الخريف، وقاومت روايات أخرى السقوط، فكانت التراتبية لها بالمرصاد؛ فقد قسمت المتون بحسب أسانيدها إلى خمسة أقسام كبرى:

  • متواتر، وهو اقلها، وأندرها، ويكاد ينحصر في العقائد و الأخلاق والشفاعة في الآخرة؛ لكنه واجب الالتزام بلا استثناء؛
  • صحيح، وهو كثير، ويجب العمل به في العبادات إبراء للذمة، وفي المعاملات ما لم يقم دليل على الخصوصية، والخلاف فيما عدا ذلك؛
  • الحسن، وهو دون الصحيح، و يساويه في الحكم، ولا يعارضه؛
  • الضعيف، وهو درجات، لا يصلح شيء منها لإنشاء الحكم أو ترجيحه؛
  • الموضوع، وتحرم روايته وتعاطيه، فضلا عن اعتباره في الحكم
    هناك امر في غاية الأهمية، في مواجهة هذه المصطلحات المتعلقة برتب الحديث، وقبوله ورده، ألا وهو الفرق الذي يجب ان يكون واضحا بين صحة أو حسن الرواية، طبقا للمعايير الاصطلاحية التي وضعها المتأخرون من أهل الفن،، وبين حقيقة ان الأمر الذي يتحدث عنه النص، هو فعلا من قول أو فعل أو تقىير أو صفة النبي صلى اللع عليه وسلم، فلا يصح الجزم بذلك شرعا ولا عقلا، مالم يكن الأثر متواترا، حيث أن معنى التواتر هو أن يتفق على الفاظه عدد من الرواة، في كل طبقة من طبقات السند، يستحيل تواطؤهم على ألكذب.
    وهناك أمر آخر يجدر التنبيه عليه، وهو أن كل من يتسمون أهل السنة، وفيهم النواصب، وكل من يتسمون الشيعة، وفيهم الروافض، لا يقبل أي منهم رواية الآخر للحديث، فضلا عن رواية من دمغهم السلطان الجائر بالخوارج، على مر التاريخ، وبمختلف فرقهم، ألا يصب ذلك مباشرة في تفريق الدين والتفرق عليه، وقد قال تعالى:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}؟
    وهناك ملاحظة ثالثة تتعلق بالمتن المتناقل، عبر كل سند، حيث يغلب عليه أن يكون روايات بالمعنى، يدل عليها الاختلاف العريض في الالفاظ بين الطبقات، هذا فضلا عن الثقة المطلقة(وكيف تكون مطلقة) في قضايا الجرح والتعديل، التي يعول عليها ألمؤلفون، ويختلفون فيها كثيرا، حد التناقض، ثم يضربون صفحات عن ذلك التناقض الصارخ.. ومن أمثلته أن يروي البخاري عن كعب الأحبار، وهو تابعي من مسلمة يهود اليمن، ثم يروي عن معاوية بن أبي سفيان في شان كعب:”وإنا لنبلو عليه الكذب” فمن يصدق من؟
    مع ذلك، يظل الحديث الصحيح والحسن مصدرا أساسيا للعديد من التفاصيل القولية والعملية للرسالة الإسلامية، في مختلف جوانب الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية، فهي تبيان الوحي والتنزيل، لكن من السلف والخلف رجال يرجع إليهم الناس، طرحوا وهم مستمرون في طرح العديد من الأسئلة ذات الصلة بالتعامل مع الحديث، ومن تلك الأسئلة:
    ١- العقائد التي لا تقوم إلا على اليقين، كيف تتأسس على نص من حديث الآحاد، ظني الورود؟
    ٢- عموميات القرآن وملحقاته، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كيف تخصص أو تقيد بأحاديث ظنية الورود؟
    ٣- النسخ وهو أصل مختلف في حقيقته، كيف ينسخ قطعي الورود والدلالة، بظني الورود؟
    ٤- الانتقائية الطائفية التي تمتنع معها الطائفة عن قبول رواية غيرها، ألا يضيع معها بعض الحقيقة؟
    ٥- كيف نقبل أحاديث تمجد الحاكم الظالم وتوجب طاعته، ونرفض أخرى تشكك في إيمانه، وتدعو لخلعه؟
    ٦- كيف نقبل رواية من استل سيفه وقتل الصالحين ليوطد أركان ملكه؟
    ذلك مدخل متواضع لبحث كبير وعميق الأثر يجب أن يواصله من يرى له ضرورة، ويرى في نفسه أهلية لمكابدته، وشجاعة للتصدى لحملات كبيرة، هي جزء من ثمن باهظ يجب أن يدفعه الشجعان المصممون على تلقي الرسالة نقية من أصولها.
زر الذهاب إلى الأعلى