استغرقت الحملة فى ولاية تكانت كل وقتي، ولم تسمح لي بما تعودت من متابعة الإعلام ورقابته خلال الحملات الانتخابية، ولذا فقد تأتي ملاحظاتي ناقصة، لأنها تعتمد بالأساس على محاولة اطلاع بعدي، وعلى ما أوصلته إلي النقاشات التي تلت تغطية وسائل الإعلام لبعض أحداث الحملة.

لفت انتباهي أن أغلب المترشحين والفاعلين في الحملات الانتخابية قد ازداد وعيهم بأهمية الجانب الإعلامي في إيصال لخطاب إلى المواطنين. هذا ما تؤشر إليه ظاهرة تعيين الناطقين الرسميين الذين تجاوز عددهم الثلاثة لدى بعض المترشحين. كما أن له عدة مؤشرات أخرى سيرد بعضها في ثنايا هذه الملاحظات.

1

كشفت الحملة الرئاسية والحملات التي قبلها عن محورية وسائل التواصل الاجتماعي في المشهد الإعلامي الوطني. لقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة موقع فيس بوك القبلة الأولى لأنصار المرشحين للترويج لمرشحيهم، وإعلان خياراتهم. ومن هنا شكلت رافدا مهما للصحافة التقليدية وزودتها بالأخبار والصور والفيديوهات، وحملت إليها ردود الفعل المختلفة على كل حدث.

استوت في ذلك الحسابات الشخصية للمدونين الذين يعدون بالآلاف، وعشرات الصفحات التي نشأت دعما للمرشحين الرئاسيين.

ويكشف تقارب الأسماء وتشابهها، وكذا تشابه المضمون الذي تنشره كثير من الصفحات الداعمة للمترشحين عن حالة من نقص الإبداع، والركون إلى التقليد في العملية الإعلامية عموما، وهي ملاحظة جانبية لا شك لكنها ذات دلالة عميقة فيما يتعلق بمستقبل صناعة الإعلام في بلدنا، والتي يبدو للأسف أنها لن تتجه إلى خلق حالة إبداعية تناسب التطور الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي، وصناعة الإعلام في العالم.

إن ظاهرة الانغماس الذي عرفته الحملات الإعلامية في وسائل التواصل الاجتماعي تطلق إشارة تحذير للقائمين على صناعة الإعلام، وإلى المهتمين بصناعة الرأي العام عموما، أن البحث عن آليات وطرق لتنظيم هذه الوسائط، وإيجاد مواثيق شرف خاصة بها بات ضرورة وطنية كبرى.

لا أعني بطبيعة الحال سن القوانين المجرمة للتدوين، أو الحريصة على التضييق على الحريات، وإنما أعني ضرورة وجود عمل تكويني، وتوعوي يستهدف التعريف بهذه الوسائل ويسعى إلى الاستفادة منها قدر الإمكان.

2

من يتابع الحملة الانتخابية يدرك أن آلة الأغلبية الدعائية تمكنت من اختراق أساليب الدعاية المضادة التي كانت تحتكرها المعارضة، ولعل من أسباب ذلك انخراط صحفيين ومدونين كبارا من العقول الإعلامية للمعارضة التقليدية في حملة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ونقلهم تجربة الدعاية المضادة، ولكنه يؤشر إلى ما هو أكبر، وهو عدم إمكانية احتكار الأفكار، أو المعارف في عالم تحكمه وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الطبيعي أن تنتقل الأفكار بسلاسة من معسكر إلى آخر.

3

كان لافتا استطاعة وسائل الإعلام العمومية اكتساب توازن شبه كامل في ظل الحملات الانتخابية التي شهدت بعض الحدة والاستقطاب. ولم يسجل أي من المترشحين أو حملاتهم انحيازا ضد وسائل الإعلام العمومية.

ولئن كان وعي المترشحين بحقوقهم في الإعلام العمومي ومواكبتهم لذلك بالتواصل مع المؤسسات المعنية، دور في خلق هذا التوازن، ولجهود السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية في ضبط وتنظيم نفاذ المترشحين إلى وسائل الإعلام العمومية ورقابتها، دور كذلك، فإن تراكم الخبرة خلال السنوات الماضية من عمر الديمقراطية، وزوال الحواجز لدى العاملين في هذه المؤسسات الدور الأبرز في خلق رقابة ذاتية على أعمالها، وأداء طواقمها، ضمنت لها أن تحقق مستوى مقبولا من التوازن خلال الحملات يعول عليه في إرساء ثقافة تعددية تفضي إلى وصول وسائل الإعلام العمومي إلى المستوى الذي تنشده القوانين والتشريعات الخاصة بهذا المرفق العمومي الحيوي.

إن الحقبة القادمة يجب أن تكون مرحلة تطور هذه المؤسسات إلى المستوى النظري المسطور في وثائقها القانونية، والتشريعات التي تنص على تحولها إلى إعلام عمومي في دولة ديمقراطية تعددية، وخلع ثوب الإعلام الرسمي التقليدي.

4

والحق يقال؛ فإن رصد التطور الحاصل في الإعلام العمومي يعد محدودا إذا ما قورن بما يحدث الإعلام الخصوصي. ومن المعروف أن مؤسسات الإعلام الخصوصي، سواء كانت تلفزيونات أو إذاعات، أو مواقع ألكترونية، كلها مملوكة لفاعلين في الحقل السياسي، وكانت لهم مواقف محددة ومعروفة بالاصطفاف إلى جانب مرشحيهم في الانتخابات الرئاسية، ولكن ذلك لم يمنعهم من إعطاء مساحات مناسبة على مستوى الاستضافات، والنشرات لصالح بقية المترشحين.

ومن الواضح أن الإعلانات لعبت دورا مهما في حضور المترشحين في وسائل الإعلام التي لا تؤيدهم، لكن الضوابط المهنية لدى هذه المؤسسات ورؤية القائمين عليها كان لها النصيب الأوفر في تخصيص مساحات لهم.

إن هذه الملاحظة تعني الكثير في بلد مهدد بالاستقطاب متعدد الأسباب الذي يأخذ أبعادا سياسية تنساق وراءها وسائل الإعلام عادة، وهو ما لا يخدم التجربة الديمقراطية في البلد، وهي على أعتاب مرحلة الثقة بنفسها، بعد انتهاء مرحلة الانقلابات العسكرية، والتعديلات الدستورية الخاصة بمأموريات الرئيس، وهو باب نرجو أن يكون قد أغلق إلى غير رجعة، وأن تكون الانتخابات الأخيرة فاتحة مسار سياسي جديد.

5

شهدت هذه الانتخابات في خطابها في الفضاء العام مستوى محترما من التزام حد مقبول من اللياقة اللفظية لدى أغلب المترشحين مع تفوق واضح للمترشح محمد ولد الشيخ الغزواني .

وقد جرى الحديث عن ميثاق وقعه المترشحون أو أغلبهم يتناول ضوابط الخطاب الإعلامي.

ومهما يكن من دور لهذا الميثاق، فإن طبيعة مرشح الأغلبية الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني، ونظافة خطابه السياسي، والبعد الأخلاقي في شخصيته قد شكلت حجر الزاوية في النظافة النسبية للحملات الدعائية، وأبعدتها عن التنابز اللفظي المعهود بين السلطة والمعارضة، في مثل هذه المناسبات.

لا أقول هذا الكلام لأني كنت ضمن حملة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وإنما أقوله كملاحظة مجردة؛ فقد استطاع الرجل أن يغير القاموس السياسي في التنافس بسرعة لافتة؛ وذلك عبر تجنبه أي عبارة يفهم منها تنقيص أو اتهام لمن كان يسميهم “إخوتي المنافسين”، متجنبا نعتهم بالخصوم، أو المعارضين.

هذه كما قلت مجرد ملاحظات عابرة، لم أشأ أن أتركها حبيسة الذهن بعد أن انتهت فترة الحملات الانتخابية، وهي في جوهرها مجرد دعوة للمهتمين لتسجيل ملاحظات قد تسهم في تطوير التجربة الإعلامية للبلد وتنعكس إيجابا على مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية فيه، فالإعلام قاطرة تجر معها الكثير في أي اتجاه توجهت إليه.

الدكتو أحمدسالم احمدسالم محمد فاضل.

زر الذهاب إلى الأعلى