مشروع الغزواني .. والقطيعة مع القطيعة / محمد الامين ولد آقه
في خطاب اعلان ترشحه أعلن الرئيس محمد ولد الغزواني أن لديه مشروعا إصلاحيا يكمل النقص الحاصل في سياسة سلفه محمد ولد عبد العزيز..
وطيلة فترة الاعداد للترشح وما تلاها من فترة الحملات، لم يكن يخفي علاقته بسلفه ..
فقد كان يصرح في العلن بأن لديه علاقة وثيقة مع ولد عبد العزيز، وفي الوقت نفسه لديه منهج مغاير لمنهج ولد عبد العزيز..
لكن البعض ظل يفترض أن الغزواني لديه موقف تكتيكي تقتضيه المرحلة ، وان الموقف الحقيقي له سيتضح تماما بعد وصوله إلى السلطة ..
البعض كان يفترض أن الرئيس الغزواني مجرد قناع يتستر وراءه ولد عبد العزيز..!
وفي المقابل كان هناك من يفترض وجود صراع خفي بين ولد عبد العزيز وولد الغزواني ستظهر حقيقته بمجرد وصول الأخير للسلطة..
وبعد نجاح الرئيس الغزواني واستلامه للسلطة، أخد كل من الفريقين يحلل سياسته بما يتوافق مع رؤيته..
فكل خطوة فيها تقاطع مع ولد عبد العزيز والمقربين منه يستدل بها أصحاب الرأي الأول على صحة افتراضهم ..
وكل خطوة فيها اختلاف مع منهجية النظام السابق وسياسته يستدل بها أصحاب الرأي الأخير !
وما لا يريد كلا الطرفين الاعتراف به هو أن سياسة الرئيس محمد ولد الغزواني مازالت إلى حد الساعة منسجمة تماما مع خطاب إعلان ترشحه..
فلا هو يريد القطيعة مع نظام ولد عبد العزيز بشكل تام ..
ولا هو يريد السير على نهجه أو تكرير اخطائه .
كأنما يريد أن يقول : لا العلاقة مع نظام ولد عبد العزيز تستلزم إلغاء مشروع الإصلاح ..
ولا مشروع الإصلاح يستلزم إلغاء العلاقة مع نظام ولد عبد العزيز .
والواضح من سياسة الغزواني -حتى هذه اللحظة- أنه يمد يده للجميع ..
فهو يريد أن يتعامل مع النظام السابق والمقربين منه ، ويريد أن يتعامل مع المعارضة ويستميلها ، ويريد أن يطبع العلاقة مع الجميع..
ولا يريد القطيعة إلا مع القطيعة ..!
وما رَبْعُ القَطيعَة لي بِرَبْعٍ ….ولا نادي الأَذى مني بنَاد.
واعتقد أن هذه المنهجية هي الأنجع بالنسبة لمن يريد إنجاز مشروع إصلاحي ، وهي المفصل الأول من مفاصل التغيير..
فمن يريد البناء لا بد له من تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء ، واستنفار المناصرين ، وتهدئة المخالفين ..
وقد قيل : إحالة العدوعن العداوة، أولى من استدعاء الصداقة من الصديق!
قيل للإسكندر: بما نلت هذا الملك على حداثة السن؟ قال: باستمالة الأعداء، وتعاهد الأصدقاء.
وقد قال الشاعر :
وذوي ضبابٍ مظهرين عداوةً … قرحي القلوب معاودي الإفناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم … وهم إذا ذكر الصديق أعاد
والضباب: جمع الضب، وهو الحقد.
والإفناد: مصدر أفند الرجل، إذا أتى بالفند. وهو الفحش والخطأ في الرأي.
يقول: رب قومٍ أعداء تناسيت بغضهم لي حتى نسوه.
وتلك هي المداراة المحمودة ..
قال أبو اسحق القيرواني في “زهر الآداب وثمر الألباب” :
(المداراة سياسة رفيعة، تجلب المنفعة وتدفع المضرة، ولا يستغني عنها ملك ولا سوقة، ولا يدع أحد منها حظه إلا غمرته صروف المكاره).
ومن شأن القائد المحنك أن يمد الجسور مع الجميع، وأن تكون له علاقة وطيدة بالموافق والمخالف، والكبير والصغير ،والقوي والضعيف ..وأن لا يميل إلى طرف دون طرف ، ولا يقترب من هذا ويبتعد من ذاك ، أو يتودد لبعض المقربين على حساب الأخرين كما في قول الشاعر :
فإن خصت رعايته فريقاً … أخل بما عليه في فريق
وأوحش بعضهم فأفاد منه … عدواً كان في عدد الصديق!
بل يكون دائما في المنتصف : قائدا للجميع ،وقريبا من الجميع ،ويعمل من أجل الجميع ..
وهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم..يقول مارسيل بوازار : في كتابه “إنسانية الإسلام” : (وكما يظهر التاريخ الرسول قائدا عظيما ملء قلبه الرأفة ،يصوره كذلك رجل دولة صريحا قوي الشكيمة ، له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم وساق وتعطي كل صاحب حق حقه).
فالإصلاحي ليس لديه وقت للخصومات والنزاعات، التي قد تهدر فيها الأوقات، وتضيع فيها الطاقات، وتعطل الكفاءات!
بل يحتاج الإصلاحي إلى ان يجمع كل الطاقات، ويستفيد من جميع الخبرات.. من أجل أن يتقدم مشروعه بديناميكية فاعلة .
والقاعدة: أن تلك الطاقات إذا لم يتم دمجها واستخدمها في البناء، فسوف تتحول إلى طاقة معاكسة سلبية الأداء!
فخصوم أصحاب مشروع الإصلاح لن يقفوا مكتوفي الأيدي، ولن يكونوا محايدين..
وسيتحولون من خصوم لأصحاب المشروع الإصلاحي، إلى خصوم للمشروع الاصلاحي نفسه !!
وسيكون مشروعهم الأكبر هو “وضع العراقيل أمام نجاح مشروع الإصلاح” !
فلا حرج إذن –من أجل سير المشروع الإصلاحي بطريقة آمنة-ان يعامَل بعض الخصوم المحتملين معاملة المؤلفة قلوبهم.. إما بالتغاضي عن بعض المخالفات.. أو منحهم بعض الامتيازات.. أو إشراكهم في بعض المناصب والتعيينات!
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم الأنصار مع شدة حاجتهم إلى المال، ويعطي الكثير للمؤلفة قلوبهم..! فيرجع الرجل الى قومه ويقول: “ياقوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر” ! ..
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتألف الناس بالمال فحسب ،وإنما كان يتألفهم أيضا بالأمور المعنوية، وإعطاء القيمة الاعتبارية.. ولهذا قال يوم فتح مكة : “ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”! .
ومن اهم البنود في قانون الاصلاح : طي صفحة الماضي بما فيه من سلبيات ،وفتح صفحة جديدة لمن يريد التكفير عن الاخطاء والسيئات .
فمن حقه : ان تعطى له فرصة التوبة والتكفير ، ويفتح له طريق العودة بلا تحجير، وإلا تمادى على انحرافه وازداد في غيه وضلاله! ، كالرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل راهبا هل له من توبة ؟ فقال : لا ..فقتله وأكمل به المائة !! وحال لسانه يقول : أنا الغريق فما خوفي من البلل؟!
ربما كان البعض له نشاط وهمة ،استغلت سابقا في بعض الاخطاء والمخالفات.. ولو بذل في سبيل الإصلاح ما بذل في الإفساد لانسدت الكثير من الثغرات..
فليس من الخطأ الاستعانة بمثل هذا في تحقيق بعض المهام في المشروع الاصلاحي اذا ظهر منه الاستعداد.
بل قد يكون أفضل من غيره في هذا المقام، لعلمه بمكمن الخلل، وبصره بموضع الزلل ، وأفضل من يهدم البنيان بانيه، وخير من ينقض الغزل ناسجه..
وقد يكون من الضرورة قول الشاعر :
تداويتُ عن ليلى بليلى من الهوى … كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ.
ولا مانع من استخدام غير الصالح في الإصلاح كما في حديث : “جاهدوا مع كل بر وفاجر” رواه الدارقطني.
ولو أن كل من أخطأ يتم شطبه وإلغاؤه، لاحتاجت البلاد الى ضعف عدد سكانها من أجل سد الفراغ الحاصل من إقصاء المخطئين !!
وقد قيل في المثل : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفاً.
أقول : إذا كان مشروع الرئيس محمد ولد الغزواني قائما على أساس “القطيعة مع القطيعة” فينبغي على جميع النخب السياسية والفكرية والإعلامية ، التجاوب معه بالدعوة إلى التقارب والتلاحم ونبذ الفرقة، فقد مل الشعب من حرب البسوس بين الحكومة ولمعارضة، ولم يجني من ذلك إلا النزاعات الدائمة و العارضة !
والمؤمل أن يكون منهج “القطيعة مع القطيعة” مبدأ نسير عليه جميعا فيسود التواصل والتراحم، ويعم الانسجام والتناغم، امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا كما أمركم الله »رواه مسلم من حديث أبي هريرة.