التعليم العالي في موريتانيا بين المنافسة الخارجية والفاعلية الداخلية / د.محمد المختار بن الحاج
صدر في العاشر من يونيو الجاري تصنيف كيو إس .Q. S العالمي للجامعات لعام 2021 المقبل. وتعتمد مؤسسة كيو إس البريطانية المتخصصة في تقييم مؤسسات التعليم العالي جملة من المعايير من أهمها: سمعة الجامعة بين الأكاديميين، سمعة الجامعة بين أرباب العمل، عدد الطلبة بالنسبة للأساتذة، التأثير على شبكة الانترنت، عدد الاقتباسات للمنشورات العلمية، عدد المقالات العلمية لعضو الهيئة الأكاديمية الواحد، عدد الأساتذة الحاملين لدرجة الدكتوراه، عدد الطلبة الأجانب..
وفق هذه المعايير تم تصنيف 1000 جامعة الأولى من بين 4700 جامعة تم إخضاعها لهذا التقييم وقد ظهرت 42 جامعة عربية في هذا التصنيف وكان على رأسها جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية في المرتبة 143 عالميا وهو ترتيب جيد جدا. ويمكننا أن نرصد جودة التعليم العالي في السعودية وارتفاع أداءه من خلال المعطيات التالية المتعلقة بالتجربة الناجحة للسعودية في التعليم عن بعد على إثر انتشار وباء كورونا وما سببه من تعطيل للتعليم الحضوري التقليدي.
للاستجابة للحاجة الطارئة التي نجمت عن انقطاع التدريس بسبب الجائحة أعلنت وزارة التعليم السعودية عن الأرقام التالية: بلغ عدد الفصول الافتراضية 2 مليون فصل يدرس فيها 1.6 مليون طالب ويزاول التدريس فيها 72 ألف أستاذ. تم إجراء 4.5 مليون اختبار إلكتروني وتنظيم 6.5 مليون حلقة نقاش. أما الرسائل والبحوث فإن 170 رسالة ماجستير ودكتوراه تمت مناقشتها عن بعد وتم إنجاز 56 بحثا و ورقة علمية عن مكافحة فيروس كورونا. كل هذا تم إنجازه في الفترة الممتدة من تفشي كورونا إلى نهاية شهر مايو.
موضوعيا، لا يمكننا إلا أن نقف مبهورين أمام هذا الأداء الرائع لمنظومة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية الشقيقة والتي بوأتها صدارة العالم العربي.
قد يقول قائل إن المقارنة غير واردة بين بلدنا وبلد غني كالسعودية وهذا خطأ جسيم يقع فيه الكثير من الناس. الإمكانات المادية ليس هي كل شيء ونجاح التعليم بشكل عام يتعلق بالإرادة السياسية والحكامة الرشيدة وإطلاق العنان للابتكار والإبداع والاستفادة من التجارب الناجحة في العالم. ولذلك نجد دولا عانت من الفقر والمرض والحروب واستطاعت بعد ذلك النهوض بسرعة والخروج من دائرة التخلف بفضل الأهمية التي أعطتها للتعليم بصفته حجر الزاوية في كل عملية تنموية.
عانت رواندا من حرب أهلية صاحبتها إبادة جماعية قُتل فيها أكثر من مليون شخص، ودمرت فيها مرافق الدولة وبنيتها الأساسية من مستشفيات وكهرباء ومدارس، وطال القتل والتنكيل المعلمين أنفسهم ما بين قتيل وسجين وفارٍ خارج البلاد، ومع كل هذا فقد نهضت رواندا بفضل التعليم وليس بالموارد.
لقد ورد في تقرير جودة التعليم للعالم الصادر عن اليونسكو عام 2014 أن رواندا من أفضل 3 دول في تجربة النهوض بفضل التعليم.
أما بالنسبة لأداء قطاع التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا فقد عرف تحولات مهمة في عهد الإدارة الوصية الحالية. لقد تحققت إنجازات معتبرة طالت الترسانة القانونية والمجال التنظيمي للمؤسسات التابعة للقطاع وفتح شعب جديدة ودمج مؤسسات متعددة. وطال الإصلاح الجانب المتعلق بالمنح التي كانت تفتقر إلى الشفافية والعدالة. وتم في ذات الوقت إقامة تعاون ناجح إلى حد بعيد مع قطاعات وزارية أخرى ومنها وزارة الدفاع حيث يتم تسيير عدة مؤسسات بوصاية مشتركة بين الوزارتين. وفي مجال التعاون الخارجي تم توقيع اتفاقيات تعاون وبرامج تنفيذية مع بلدان عديدة. لكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن هذه الإنجازات لم تكن لتتحقق لولا فريق العمل الذي يعمل في الوزارة ومؤسساتها من مستشارين ومديرين ومسيري مؤسسات. لا بد أن نعترف لكل ذي حق بحقه وعليه لا يمكن أن نتهم الوزارة بالاستبداد في الرأي على الأقل في هذه الجزئية. أن تكون الإدارة الوصية قد أنجزت نجاحات معتبرة لا ينكرها إلا مكابر، فإن ذلك لا يعني أنه لم تكن هناك إخفاقات في جوانب أخرى ماثلة للعيان بالنسبة لمن ينظر نظرة موضوعية لأداء الوزارة.
لقد حصلت تغييرات جذرية في النظام الجامعي ظاهرها الإصلاح لكن في باطنها أحدثت صدعا عميقا في الأسرة الجامعية حيث إن تلك التغييرات المغلفة بغلاف الإصلاح تم فهمها على أنها تحمل دوافع انتقامية وإقصائية لمجموعة معينة من أساتذة التعليم العالي. من تلك المكتسبات التي تم التراجع عنها دمقرطة الحياة الجامعية من خلال انتخاب العمداء والرئيس. وقد اتخذ ذريعة لذلك أن المجتمع الجامعي الموريتاني غير ناضج وغير مؤهل لتحمل ضوابط الحياة الديموقراطية في الجامعة وأن الرئيس والعميد ورئيس القسم صاروا رهائن في يد من انتخبوهم. وهذه حجة قد يكون لها نصيب من الحقيقة لكن يرى البعض أن الدوافع الحقيقية وراء ذلك هي تمكين أقلية ذات نزعة فرنكوفونية للاستئثار بالمناصب القيادية في المؤسسات لأنهم لن يصلوا إلى تلك المواقع لو استمر الحال بدمقرطة الحياة الجامعية. ولكم أن تتصوروا أن التعليم العالي في السعودية أكثر دمقرطة من تعليمنا العالي في بلد ديموقراطي. وزارة التعليم العالي في السعودية لا يمكن أن تجبر الجامعة على تسجيل الطلاب إلا وفق شروط الجامعة ولذلك فقد فشلت وزارة التعليم العالي الموريتانية في ضمان تسجيل الطلاب الممنوحين إلى السعودية رغم الاتفاق الحاصل بين الطرفين والذي حدد عدد المقاعد المتاحة للطلاب الموريتانيين. الجامعات السعودية تتيح المجال لكل من يرغب في التسجيل وفق الشروط المطروحة دون المرور بوسيط وبالتالي فلا منة لوزارة التعليم العالي في منح الطلاب إلى السعودية.
العامل الإنساني مهم جدا في أي مشروع يراد له النجاح ويرى الكثير من المراقبين للقطاع أن الإدارة الوصية على القطاع لم تفلح في بناء علاقات ثقة مع الغالبية العظمى من الأسرة الأكاديمية. بل يمكن أن نقول إن تلك العلاقة طغى عليها انعدام الثقة والشك في النوايا والافتقار إلى خصلة الاستماع والحوار والتشاور. قرارات غير مدروسة أخذتها الإدارة الوصية كان لها وقع سلبي لم تحسب له الوزارة حسابا من قبيل تسريح بشكل تعسفي لأستاذ جامعي من أقدم الأساتذة مكلف بمهمة في الوزارة قبل شهرين فقط من تقاعده وتعيين السكرتير الخاص مكانه وتقديمه (أي السكرتير) للتوشيح من طرف رئيس الجمهورية الأسبق في عيد الاستقلال. لقد ولد كل ذلك موجة من الاستياء والشعور بالغبن. كما تسبب في تدمير جو السكينة وروح الفريق بين الطواقم العاملة في القطاع. وقد حدث تشرذم داخل الوزارة وتوابعها أدى إلى خلق جو من الارتباك بل المنافسة السلبية بين تلك المجموعات. في خضم هذا الجو تم إعفاء مجموعة معتبرة من الاساتذة الجامعيين رغم كفاءتهم وإخلاصهم في عملهم الحكومي. وكان القاسم المشترك لأولئك المبعدين إما لأنهم تجرؤوا على إبداء رأي مخالف أو بسبب تأثير تنافس المجموعات المختلفة التي نمت وترعرعت في عهد الإدارة الحالية.
لكن أسباب أخرى تقف وراء تراجع أداء قطاع التعليم العالي والبحث العلمي نجد جذورها العميقة في مسألة قد لا تخطر على بال الكثيرين. لقد بدأ أداء الإدارة الوصية على قطاع التعليم العالي في التراجع منذ أن تمت إضافة قطاع تقنيات الاعلام والاتصال إلى الوزارة. حيث استغرق هذا الجانب كل طاقة الإدارة الوصية واهتمامها فلم تعد تولي أهمية تذكر للتعليم العالي والبحث العلمي. لكن مما زاد الطينة بلة وشكل خيبة أمل للكثيرين هو ما تم تداوله من أخبار ووثائق تتعلق بفساد مالي عبر صفقات مشبوهة اشتملت على اختلالات غير مبررة في الانفاق المالي وفي منح الصفقات في عدة مؤسسات (CNOU, ISPILTI,WARCIP ) وهي أمور معروفة وموثقة. كذلك من الأمور التي أفقدت الإدارة الوصية مصداقيتها، الاستهتار بالقانون بالامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية لصالح الطلاب الذين قضي على مستقبلهم. ورفض إعطاء الأساتذة حقوقهم التي منحهم القانون. والتطبيق التعسفي والسيئ لنظام ل. م. د. بحيث يتم سنويا طرد عشرات الطلاب قبل أن يكملوا دراستهم. وقد كان لإجراء آخر أسوأ الأثر ويتمثل في فرض تدريس ثلث المواد باللغة الفرنسية: لم تراع الإدارة الوصية واقع التعليم في موريتانيا وخاصة تدني مستوى التلاميذ والطلاب في اللغات. وهي وضعية ناتجة عن النظام التعليمي الموريتاني. أدت هذه الوضعية إلى تراجع مستوى الطلاب في اللغات كلها ولا سيما اللغة الفرنسية. حيث أثبتت الدراسات التقييمية التي قامت بها وزارة التهذيب أن اللغة الفرنسية على وجه الخصوص تعاني سوء التدريس بسبب ضعف مستوى المعلمين والأساتذة. وهذه الوضعية السلبية تأثر على مستوى التلاميذ والطلاب فالانتقال من التعلم باللغة العربية إلى اللغة الفرنسية يربك التلاميذ والطلاب الذين لا يتقنون اللغة العربية ولا يعرفون اللغة الفرنسية، وهي وضعية يعززها أحيانًا عدم إتقان المعلم للغة التي يدرس بها. هذا القرار في نظر البعض يفتقر إلى المصداقية والعدالة ويقصي كل سنة عشرات الطلاب من الجامعة ويحرمهم من الحصول على أي شهادة جامعية ويضع مستقبلهم في مهب الريح ويجعلهم عرضة للانزلاق في متاهات ومخاطر لا حد لها ولا تخفى على كل عاقل حكيم يهمه أمن واستقرار هذا البلد، لكن تلك قصة أخرى. وخلاصة القول إن التعليم العالي عرف شكلا من أشكال التنظيم الجيد خلال السنوات الأخيرة لكن هذا الإنجاز إن جاز أن نسميه بهذا الاسم تم إفراغه من محتواه وانقلب إلى عقبة كأداء في وجه إصلاح القطاع نظرا لأن الغالبية العظمى من الأساتذة والطلاب لم تقتنع به بل رأت فيه عملا يخدم أجندة خاصة بفئة معينة أكثر منه عملا إصلاحيا لقطاع حيوي كالتعليم العالي والبحث العلمي. والمؤمل الآن في ظل الحكومة الجديدة هو أن يتم إعادة توجيه المسار حتى يأخذ القطاع وجهته الصحيحة وحتى لا تذهب الجهود سدى.