كيف تقودنا الفلسفة المادية إلى الإكتئاب؟

الموريتاني : في إطار الفلسفة المادية يصبح الإنسان جزء لا يتجزأ من العالم المادي الطبيعي، تسري عليه قوانين الطبيعة الصارمة بشكل لا فكاك منه، أي أنها توحد الإنسان بالطبيعة بحيث يرد كله إلى مبدأ واحدي كامن في الكون، وتصبح المرجعية النهائية مرجعية كامنة غير متجاوزة للكون، بحيث يصبح عالم أملس مُجرد من الثنائيات والغائيات (الخالق والمخلوق، الخير والشر، الإنسان والطبيعة.. الخ)، وبالتالي فإن هذا الكون الواحدي المادي يحوي بداخله ما يكفي لتفسيره، مع رفض تام للماورائيات والميتافيزيقا.

الإنسان في هذا العالم يعرّف تبعًا لوظائفه البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويرد إليها.. أي أنّه لا يمكن بحال التفرقة بين الإنسان الطبيعي وأي كائن آخر، لذا فإن الإنسان هنا بريء ومحايد، مثله مثل براءة الأفاعي وحيادية العواصف والرياح.

يصبح الحديث – في هذا الإطار المادي الواحدي المكتفي بالطبيعة كمرجعية نهائية – عن القيمة والمعنى والغاية أو أي قاعدة أخلاقية لغوًا لا فائدة منه – إذّ أن المادة عشوائية وتسير ضمن قانون حتمي صارم وليس لها أي سمة من سمات العقل (الغاية، الهدف، المعنى، القيمة.. الخ) – ويتم في هذا العالم اسقاط القوانين التي تسري في الطبيعة على الظواهر الإنسانيّة والاجتماعية والتاريخية، من ذلك مثلا الاعتماد على نظرية داروين باعتباره قد وصف هذه القوانين في كتابه “أصل الأنواع” من خلال الانتخاب الطبيعي، وأن تقدم الأنواع يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح.

ممارسات الإنسان لا يمكن بحال أن تكون انعكاسًا لقوانين الطبيعة، بل إنها مختلفة اختلافًا جوهريًا عنها، ولذا فإن السلوك الإنساني يشكل ثغرة معرفية كبرى تعجز عن تفسيرها الفلسفة المادية

تبدو هذه الرؤية التي يشيعها النموذج المادي رؤية تراجيدية كئيبة ومرتبكة وعاجزة.. شئنا أم أبينا فإن للطبيعة البشرية جانبًا متجاوزًا للطبيعة وغير خاضع لقوانينها، منها نشاط الإنسان الحضاري (الحس الخلقي والجمالي والديني)، ومن مظاهره الأخرى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح الأسئلة ويبحث عن العلل الأولى وغاية وجوده في الكون، ومنها أنّ الإنسان كائن واع بذاته وقادر على تجاوز ذاته الطبيعية والتمرد عليها، وهو قادر على تطوير منظومات أخلاقية خارجة عن إطار العالم المادي.. وهو الكائن الوحيد الذي يتمتع كل فرد من أفراده بكيان مستقل.

البشر ليسوا نسخًا متطابقة ولا يمكن صبهم جميعًا في قالب تفسيري واحد.. الزمن الإنساني زمن الإبداع والمأساة، الخطيئة والتوبة، النبل والخساسة، وهو زمنٌ مختلف كل الاختلاف عن الزمان الحيواني الخاضع لدورة الطبيعة الرتيبة.. مما يعني أن ممارسات الإنسان لا يمكن بحال أن تكون انعكاسًا لقوانين الطبيعة، بل إنها مختلفة اختلافًا جوهريًا عنها، ولذا فإن السلوك الإنساني يشكل ثغرة معرفية كبرى تعجز عن تفسيرها الفلسفة المادية.

إنّ عجز النموذج التفسيري المادي عن تفسير ظاهرة الإنسان يقود إلى الشعور بالاغتراب، يجد الإنسان فيه أنّ جانبه الإنساني قد تم اغتياله والتنكيل بجثته، وتم إحلال الجانب المادي/الطبيعي مكانه، في إطار رؤية شاملة باعثة على الكآبة، تتحدث عن عالم بلا منطق، عالم أصم أبكم، يرى أنّ المصير الإنساني مصير مأساوي لا فائدة ولا جدوى منه.. الإنسان فيه غير ممكن أو غير متحقق.

زر الذهاب إلى الأعلى