الخطاب الإسلامي المُفارق ، رؤية تشخيصية للمفكر “علي محمد الشرفاء الحمادي “

منذ بزوغ فجر الإسلام وعلى امتداد مسيرته الطويلة ، نمتْ على هامشه قصص وحكايات، وترعرعت أفكار ومفاهيم واجتهادات ، شكلت في مجملها خطاباً إسلامياً مفارقاً لجوهر الرسالة المحمدية الصافية . وعلى حين غفلة من الأمة ، انتشر هذا الخطاب وتغوّل وهيمن على ما سواه ، ثم انتقل رويدا رويدا من دائرة الظني الى دائرة القطعي، مزاحماُ بذلك كلام الله في الحكم ، والحجة ، وقوّة الدليل ، حتى بات لدينا ما يعرف ب” القرآن المنسوخ بالسنة”!
في كتابه المميز ” المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي” يُشخّص المفكر “على محمد الشرفاء الحمادي ” هذه القضية مبرزاً ، بأسلوب جزل وتحليل معمّق ، كيف توارى الإسلام الأصلي النقي خلف أسوار الإسلام الرديف أو الموازي ، وكيف اصبح الدين الذي انتجه الجهد البشري من خلال الاجتهاد، والاستنباط ، والقياس ، والاعتماد على الذاكرة في الحفظ والنقل ، بديلا عن الدين المنزّل من السماء المحفوظ بنص قطعي الورود والدلالة ، وذلك بالرغم من أن الأول يعتريه ما يعتري الانسان من نقص ، وضعف ، واختلال ، وتعصُّب أحياناً ، بينما الثاني مُكتمل في ذاته وفي مبناه ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، منزّهٌ عن الأهواء والشك والاشتباه وما شاكل ذلك من نواقص تلازم المخلوق عادة ولا تصلح لتكون دعامات ترسو عليها عقيدة المؤمن .
في مقاربته التشخيصية يضع المفكر “على محمد الشرفاء” فروقاً جوهرية بين الخطابين الإلهي والديني تُظهر مدى التضاد والتعارض بينهما، وقد اعتمد لأجل ذلك آيات القرآن العظيم المحكمة جاعلاً منها مرجعية وأداة للمعايرة والقياس ، فما حاد عنها ضلّ وانحرف ، وما وافقها قُبل تحت عباءة الإسلام الصحيح ما دام يخدم أهادفه الكلية ومبادئه العليا . وقد عزّز هذا المنهج بالتركيز على مسألة الوحدانية في الإسلام كإحدى الخصائص التي ميّزت هذا الدين عن غيره من الأديان ، فما دام الرب واحدٌ ، والرسول واحدٌ ، والكتاب واحدٌ ، فعلى أيِّ وجهٍ ، وبأي منطقٍ ، يتشظّى المسلمون اليوم إلى مللٍ ، ونحلٍ ، ومذاهب ، وطوائف شتى يكفر بعضها بعضا ويقتل بعضها بعضا؟!.
الجواب على ذلك لا يحتاج الى كثير تدبُّر ، فهو بكل بساطة يكمن في عصيان الأمر الإلهي في قوله تعالى “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” وقوله تعالى “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي” وقوله تعالى “ما فرطنا في الكتاب من شيء” وقوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء”. ورغم وضوح هذه النصوص وبيانها الصريح ، رفض البعض الانصياع لما فيها تكليف وتحذير وتنبيه ، وأصر على الابتداع في الدين ، فانتج للأمة خطابا دينياً محشواً بقنابل الفتنة والتفرقة ، وقد وجد أعداء الإسلام فيه ما كانوا يبحثون عنه طويلاً لينتقموا ويفرّغوا غضبهم وحقدهم الدفين على المسلمين.
يُوغل المفكر “علي محمد الشرفاء” في تفكيك بنية هذا الخطاب الديني وإظهار مخاطره على الرسالة المحمدية ، ومن ذلك أنه اختزل أركان الإسلام في بضع عبادات استناداً لحديث في البخاري ، بينما تمّ التغاضي عن كل ما جاء في آيات القرآن العظيم من أوامر ونواهي وواجبات ومحرّمات ، واعتُبر أن كل ذلك ليس من أركان الإسلام ولا من أعمدته الرئيسية التي يقوم عليها !. وهذه بالفعل مفارقة عجيبة تدعو كل مسلم اليوم لإعادة النظر فيما لُقّن له منذ الصغر . فمن الصادم حقا أن تختفي من قائمة اركان الإسلام ثوابت أساسية جاء بها القرآن لتنظيم حركة الحياة وضبط اخلاقيات الناس والارتقاء بها ، مثل : الصدق ، والعدل ، والإحسان ، والانفاق في سبيل الله، وبر الوالدين ، والرفق بالضعيف ، والتسامح ، والإنصاف ، وحسن الخلق ..الخ.
فهل يُستساغ عقليا أن تظل هذه القيم العظيمة مجرد مُكمّلات لعمارة الإسلام بينما تُشيّد أسسه ودعائمه الرئيسية بنزرٍ يسيرٍ من الشعائر التعبدية لا تتجاوز عدد أصابع اليد ؟!. أما آن للمسلمين أن يُصحّحوا الخلل الذي أصاب هذا البناء المقدّس ويعيدوا تصميمه وتشييده وفق المخطط القرآني المتميز بالدقة والخلوّ من الهفوات؟.
يرى المفكر “على محمد الشرفاء” أن الخلط بين ما هو إلهي صرف وما هو ديني محمول على الظن ، أدّى في نهاية المطاف لذلك التشويه والاعوجاج الذي ضرب جسد الإسلام في الصميم وتغلغل فيه منذ بداية عصر التدوين في القرنين الثالث والرابع الهجريين. والأدهى والأمر من ذلك أنه ترك الباب مُوارباً لولوج تراث خرافي مُتنطّع ليس من تربة الإسلام ولا حتى من بيئة العرب ، إلا أنهم خلعوا عليه رداء القداسة وبات المسلمون اليوم ملزمين بتصديقه والدفاع عنه أمام هجمة العلم والمعرفة التي لا يمكن مقاومتها بالمراوغة وأسلوب الترقيع.
ويخلص المفكر “على محمد الشرفاء” إلى أن المسلمين اليوم في ظل هذا الإرث الثقيل ليس أمامهم سوى أحد خيارين لا ثالث لهما ، إما ان يحتفظوا بالخطاب الديني البشري المُستحدث وما فيه من روايات زائفة وملفّقة ، فيستمروا في الضياع . وإما أن يتخلصوا منه ويعتمدوا القرآن وحده كتاب هداية ، فتعود الطمأنينة للقلوب وتزول بواعث الحيرة والاختلاف وتتلاشى المذهبية والطائفية المقيتة، والأهم من ذلك كله عودة الدين صافياً ، نقياً ، خالياً من الشوائب والمطاعن ، لديه كل مقوّمات الاقناع ، والانتشار ، والتمدّد ، التي امتلكها في الحقبة المسماة تاريخيا ب”صدر الإسلام”.

حي معاوية حسن

زر الذهاب إلى الأعلى