“تدوين الأحاديث” بين اجتهاد الخلفاء واجتهاد الفقهاء .. / حي معاوية حسن
“تدوين الأحاديث” بين اجتهاد الخلفاء واجتهاد الفقهاء
هناك حديث نبوي مشهور يتردد صداه على مسامع المسلمين منذ قرون بعيدة جاء فيه ( ….. عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ . وإياكم ومحدثات الأمور . فإن كل محدثة بدعة . وكل بدعة ضلالة).
انطلق الفقهاء من هذا الحديث ومن أحاديث أخرى مشابهة له في الدلالة والمعنى ، ليقرروا قاعدة مفادها أن اقوال الصحابة وافعالهم – وخاصة الخلفاء الراشدين – جزء أصيل من السنة ، ومن جحد بذلك وعمل بخلافه ، فهو على حد الكفر. لكن الفقهاء لم يلزموا انفسهم بهذه القاعدة ، وتخلوا عنها سريعا لصالح اجتهاد ظهر في القرن الثالث الهجري على يد البخاري ومسلم ومن حذا حذوهم من كتبة الأحاديث ، مقرين (الفقهاء) بأن تدوين الأحاديث عمل مشروع ، وذلك بالرغم من أن سنة الخلفاء الراشدين كانت على النقيض من ذلك تماما ، إذ لم يؤثر عنهم رضوان الله عليهم ، أنهم أمروا بكتابة شيء غير القرآن ، بل منعوا كل ما عداه ، ورفضوه ، واستخدموا ضده وسائل المنع المتاحة لهم كحكام بيدهم السلطة ويدركون جيدا أنهم مرجعية الامة في المسائل الدينية.
تحدثنا أمهات كتب التاريخ الإسلامي أن الخلفاء الراشدين أحرقوا صحائف الاحاديث ، وعنفوا رواتها ، وأمروا صراحة بمنعها من التداول على الألسن . ومن تلك الكتب نذكر على سبيل المثال لا الحصر: البداية والنهاية لابن كثير ، تاريخ المدينة لابن شبة النميري ، والكامل لابن عدي ، تذكرة الحفاظ للذهبي ..جامع البيان لابن عبد البر . الخ . وحتى كتب الاحاديث نفسها تضمنت مواقف صريحة للخلفاء تؤكد رفضهم لكتابة الاحاديث.
وحري بنا أن نقدم نماذج للاستدلال على ما ذكرناه كي يكون القارئ ملما بحيثيات الأمور ، فمن أهم النصوص المشهورة في هذا الصدد ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها عن والدها الخليفة الأول ابوبكر الصديق ، حيث قالت: “جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرا؛ فغمني، فقلت: أتتقلب بشكوى أم لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها، فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت فيه، ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك”.
كان ذلك هو موقف أبوبكر الصديق من الأحاديث، ويتضح منه مدى حرصه رضي الله عنه على نقاء الدين وحمايته م.ن عبث العابثين ومكر الماكرين. وعندما جاء عمر رضي الله عنه، كان التعامل مع الأحاديث أكثر وضوحا وصرامة ، وقد أدرك غير واحد من المسمين أن تعاطي عمر مع الأحاديث النبوية لا يقتصر فقط على منع تدوينها ، بل يمتد أيضا إلى منع روايتها وتداولها بين الناس .
ومن بين ما ورد عنه في هذا الصدد أنه قال لأبي هريرة “لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض الطفيح” – يعني أرض قومه – وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القرية. وذكرت الروايات أيضا أن عمر ضرب أبا هريرة بالدرة و قال له : ” قد أكثرت من الرواية ، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله”.
ويعترف أبو هريرة نفسه بذلك، ويشهد على مواقف عمر من الأحاديث فيقول : ” ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر”. وروي عنه انه قال :” لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة”.
وكان عمر رضي الله عنه حريصا على إعلام الأمة كلها بما استقر عليه رأيه بشأن الأحاديث ، فخطب في الناس ذات مرة قائلا : ” . . . من قام منكم فليقم بكتاب الله ، و إلا فليجلس فإنكم قد حدثتم الناس ، حتى قيل قال فلان و قال فلان ، و ترك كتاب الله”.. وفي الحديث الذي راوه عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنة، فاستفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير اللهَ فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: “إني أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا؛ فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا”.
ومن الواجب التنويه هنا إلى أنه بالاستناد إلى الأحاديث الصحيحة، فإن استخارة عمر رضي الله عنه لا يجانفها الصواب أبدا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به”. ولقوله أيضا “إنه كان قبلكم في الأمم محدَّثون ، فإن يكن في هذه الأمة فهو عمر” . والمحدّث هو من يلهمه الله الرأي الصائب ويجري على لسانه الحق، فينطق به.
وعلى هدي الخليفتين الأول والثاني، سار الخليفتان الثالث والرابع ، عثمان ابن عفان وعلي ابن ابي طالب رضي الله عنهما ، إذ لم يؤثر عنها انهما أمرا أو سمحا بتدوين الأحاديث ، وانما كان شغلهما الشاغل حفظ كتاب الله ونشره والعمل بما جاء فيه .
ومن المفارقات التي تترك المسلم حائرا هذه الأيام ، أن من يدّعون تمسكهم بالسنة ، ينكرون على الناس أمورا كثيرة بحجة أنها لم تكن على عهد رسول الله ولا عهد الخلفاء الراشدين ولم يعملوا بها ، وعندما تُذكّرهم بأن “تدوين الأحاديث” لم يكن أيضا على عهد رسول الله ولا عهد خلفائه الراشدين ، دخلوا عنك في سلسلة طويلة من التبريرات الباردة المتهافتة والتي لن تخرج منها سوى بنتيجة واحدة وهي أن اجتهاد الفقهاء في تدوين الأحاديث يناقض ، من غير وجه ، اجتهاد الخلفاء الراشدين المانع لذلك التدوين، قولا، وفعلا ، وتقريرا .
وعليك أيها المسلم أن تدرك وتستنتج بعقلك الحر الواعي ، أن سبب كف الخلفاء الراشدين عن تدوين الاحاديث ، هو وعيهم بالدين وفهمهم العميق للقرآن وتدبرهم لمعانيه ، وقد ارشدهم ذلك المنهج الذي رباهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن السنة في مدلولها العام والخاص هي الإمتثال للقيم الانسانية النبيلة والأخلاق الفاضلة المسطرة في القرآن والتي كان رسولنا الأكرم ٱسوأة حسنة لها حيث يصفه الله جل شأنه بالقول (وإنك لعلى خلق عظيم).
لقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، بلسما يداوي جراح المقهورين والمضطهدين ، وكان مصلحا لأحوال الناس الدنيوية والأخروية ، يكلمهم بلطف ويدعوهم بالتي هي أحسن ، يزرع فيهم الصدق وبر الوالدين والاحسان للفقراء والمعوزين ، وقد وجدوا في حديثه رقة وفي اسلوبه حلاوة وطلاوة يستشعرها المؤمن وغير المؤمن ، فتعلقت به الأفئدة والقلوب المتعطشة بفطرتها الانسانية للسلام والعدل وفعل الخير ونبذ الشر ، المتطلعة الى من يجمع شمل البشر ، على اختلاف السنتهم والوانهم ومشاربهم الثقافية ، تحت راية الحرية والمساواة والانصاف.
هكذا كان نبينا وهكذا كانت سنته المدونة في القرآن وليست تلك المدونة في الأحاديث وكتب المغازي والسير ، فاكتفى الخلفاء بما جاء في التنزيل المحكم المحفوظ من التبدل والتغيير ، وطفق الفقهاء يلهثون خلف الروايات ، فتاهوا وتاهت معهم الامة وانقسمت الى مذاهب وطوائف تتناحر ، ، فالنبي في القرآن ليس هو النبي في تلك الكتب المبتدعة بعد وفاته ووفاة خلفائه الراشدين بقرون عدة ، فشتان ما بين رجل يصفه الله بقوله (ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك ). ورجل تصفه الأحاديث بقولها (جعل رزقي تحت ظل سيفي. )
حي معاوية حسن