تأملات في كتاب ومضات علي الطريق الجزء الثالث

نص محاضرة الدكتور احمد الحافظ رئيس مركز تسامح خلال تقديمه لكتاب ومضات علي الطريق خلال ندوة فكرية أقامتها مؤسسة رسالة السلام العالمية للدراسات والبحوث الإسلامية بموريتانيا :

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة وسلاما للعالمين
جمعنا الكريم: سامحوني بدءا ونحن نستهل نقاش هذه الومضات؛ التي تؤسس –مع أخريات- لرؤية تحاول نفض الغبار عن الإسلام الغض الطري، وعن النص الإسلامي المقدس.. رؤية تعيد الإسلام –كما كان- دين سلام ورحمة ومحبة وتسامح.. دين محاججة وعقل ومنطق.. سامحوني بهذه السانحة، والكثير من السوء يمارس باسم الإسلام، أتمنى أن يكون آخره دم الأستاذ الفرنسي الذي لا يزال يزكم أنوفنا؛ سامحوني أن نستنكر باسمنا جميعا ذلك الفعل الهمجي البشع؛ الذي أساء إلى ديننا أكثر من أي رسم أو أي مقال.. وهي سانحة –أيضا- لنعلن –بكل صدق- براءة دين الله من تلك الفظائع، ومن أي مسلك مشابه.. أستهل بذلك لأن الكتاب الذي بين أيدينا يقوم في لبه على إعادة التصحيح وإعادة الغربلة لهذا الدين الذي اختُطف، ولذلك النص الذي حُور.
حضورنا الكريم: فيما يربو على المائتي صفحة، ومن خلال خمسة مباحث يجيب الجزء الثالث من سلسلة “ومضات على الطريق” على كبريات الأسئلة البستمولوجية المتعلقة بكينونة الإسلام؛ والتي ظلت غائبة أو عالقة قرونا من تاريخنا، وظل المتعاطون معها حذرين هيابين.. أسئلة من قبيل: لماذا ارتبط الإسلام في أذهان الكثيرين –اليوم- بالتطرف والغلو والتعصب؟ لماذا نعايش العديد من طبعات الإسلام المتناقضة والمتناحرة؟ لماذا ترفض الطبعات السائدة من الإسلام الآخر؛ ولا تراه يستحق غير القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة؟ لماذا يهتم الإسلامي بمعتقد غيره، ومصير غيره أكثر من اهتمامه بمعتقده (هو نفسه) وبمصيره؟
طُرحت هذه الأسئلة كثيرا –وربما عميقا- من قبل العديد من المفكرين والباحثين، خلال المائة وخمسين سنة الفارطة، وكانت الإجابات –في الغالب- تتوزعها ثنائية الإفراط والتفريط؛ فما بين داع للعودة الفيزيائية للماضي؛ دون التفريق بين التراث والوحي، وما بين مطالب بتجاوز الماضي، دون مراعاة –هو الآخر- لطبيعة هذا الماضي؛ المتوزع بين التاريخ البشري؛ المحكوم بالنسبية، والنص الإلهي المحفوظ من لدن الخالق والمطلق.
كان هذا الجوابان هما السائدين في الفضاء المعرفي الإسلامي العام، وبدل أن يحسما الإشكال، ويساهما في تجاوزه؛ أصبحا جزءا من الإشكال نفسه؛ فزادا من التشرذم، ومن الانقسام، ومن التشيع؛ إذ لم يكونا غير رافد جديد لمزيد من صناعة التطرف والعنف والتخلف، والتمزق الذهني والوجداني.. من هنا فإن الجزء الثالث من “ومضات في الطريق” لم يكن إجابة على تلك التساؤلات فحسب؛ بل كان –أيضا- مخرجا من تلك الثنائية، وتجاوزا لتخندقاتها وعصبيتها.. فلتتعالوا بنا لنرى كيف كانت إجابته على تلك التساؤلات الملحة والمحرجة في آن واحد.
من خلال خمسة محاور –كما أسلفت- يثير المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي واقع الإسلام اليوم؛ بل وواقعه منذ معركة الجمل.. وتوخيا لشيء من المنهجية سنتناول المحاور محورا محورا..
عبر مقدمة –كجل المقدمات- شبيهة بالخلاصات يبدأ المفكر بدعوة صريحة وصادقة إلى العودة إلى الله؛ مازجا بين مخاطبة العقل والقلب، بين استثارة العاطفة وإيقاظ المنطق.. محددا معايير للانصياع لأوامر الله من خلال القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ حيث تنحصر طاعة الله –وفق كتابه العزيز- في توحيد الله والعمل الصالح؛ ذلك العمل الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض، ويغوص هذا المفهوم للدين بعمق في مقاصد الشرع، وفي غرض المشرع؛ حيث يبتعد عن الشكلانية التي طالما رسخها “التراثيون” في أذهاننا؛ إذ يصبح الدين –وفقها- ليس إلا لبسا أو حركة أو كلمة.. بعيدا عن المضمون وعن المقصد، ولعل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان من أوائل الذين تفطنوا لهذه القضية؛ إذ يقرر أن الأشخاص لا يمكن تجربة صدق إيمانهم عن طريق التزامهم بشكليات الدين (الصوم والصلاة مثلا) وإنما تجرب بمستوى انسجامها مع مضامين الدين ومقاصده (الصدق والأمانة مثلا) حيث يقول: جربوهم بالدراهم والدنانير ولا تجربوهم بالصوم والصلاة؛ فإن البر والفاجر يأتيانهما.
هكذا يخاطب الكتاب الضمير المسلم المرهق بوابل من التأنيب والوعد والوعيد إن هو لم يأت كذا وكذا من تلك المرويات التي لا حصر ولا حد لها.. بل أكثر من ذلك يبالغ التراثيون في إشعار المسلم بالذنب مع بعد رحمة الله، في أدبيات لا وجود لها في كتاب الله؛ بل يوجد فيه ما يلغيها ويدحضها؛ إذ يقول جل من قائل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} ومعروف أن الإسراف على النفس يجر –بالضرورة- إلى كل المخالفات.. فمن وحد الله وعمل الصالح في هذه الحياة جاء أوامر الله {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} {واعبدو ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}.
وحين يحذرنا الله من اتباع الشيطان نرى الكثير من النصوص التراثية تدعو عكس ذلك؛ دون أن يشعر –ربما- متبعوها؛ فبدل السعي من أجل هداية الزائغين، وسؤال الله هدايتهم، وتوضيح طريق الله لهم بحكمة وبالتي هي أحسن؛ بدل ذلك نرى نصوصا تحث على إعلان الحرب عليهم ومواجهتهم، وسؤال الله دمارهم وخرابهم.. إنهم يتمنون لهم مزيدا من الغواية ومزيدا من الضلال؛ بل ويجرونهم إليه.. إنه ذات الدور الذي تعهد الشيطان لرب العزة بالقيام به {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} يضاف إلى ذلك تمجيد تلك المرويات للفقر والفقراء؛ حتى ليصيح الفقر بالنسبة للعديدين مأثرة يثاب عليها صاحبها، وهذا تجسيد آخر لدور الشيطان وفق كتاب الله؛ المنزه عن الخطأ والنقص {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}.
ويوضح الكتاب أن هذا التحوير –حتى لا أقول التحريف- للإسلام كان بدافعين؛ دافع داخلي، ودافع خارجي.. أما الدافع الداخلي فقد كان مرده الصراع الطائفي الذي احتدم باكرا بدوافع سياسية صرفة؛ ليتوسع مع توسع الدولة في التاريخ والجغرافيا؛ حيث أضحت كل طائفة –انتصارا لنفسها، وادعاء لحصر الشرعية عليها- تستدعي الكثير من المرويات والسرديات؛ محاولة رفعها لدرجة الوحي؛ حين لم تستطع بلوغ غايتها في الوحي؛ لأن الله حفظه من التحريف والتغيير؛ إنه بحث صرف –إذن- عن الشرعية.
أما الدافع الخارجي فكان من اليهود بالدرجة الأولى، والنصارى بدرجة ثانية؛ إذ كانوا يبيتون النية ضد الإسلام؛ الذي شكل –ويشكل- خطرا على الديانتين، ومنافسا قويا لهما؛ خصوصا حين نمعن النظر في الفوارق المتعلقة بالعقيدة والتشريع.. من هنا كانت الإسرائيليات، وكان العديد من رواتها –كما هو معروف- من أصول يهودية أو مسيحية؛ مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وابن جريج، ووهب بن منبِه.. وغيرهم كثر.
بعد تلك المقدمة الصريحة، والمليئة بالملاحظات الدقيقة يأتي المبحث الثاني، الموسوم بـ”تصويب الخطاب الإسلامي” وهو تقرير مشخص مخلص؛ لا يريد مداهنة العواطف، بغية رشوة القارئ؛ إنه تشخيص مبكر بحالة الخطأ التي يعيشها الخطاب الإسلامي، وهو موضوع سال فيه حبر غزير، وانشغل به عديد المفكرين والمثقفين؛ لكنه هنا اختلف التعاطي معه، واختلفت آلية معالجته؛ لأن المؤلف انطلق من ذات المسلمة السابقة؛ وهي أن إشكالية الخطاب الإسلامي تكمن في مصادره؛ وليس في معالجة تلك المصادر؛ مثلما دأب المعالجون السابقون على ذلك الحكم؛ تلك المصادر التي جاءت غالبيتها انقلابا على المصدر الرئيس؛ بل المصدر الأوحد (القرآن الكريم) بالدوافع السابقة التي ذكرنا؛ لذلك فإن غربلة المصدر –وحدها- كفيلة بإعادة الخطاب الإسلامي إلى السكة السليمة، فالتراثيون يبدؤون أطروحاتهم –دائما- بالوصاية على قلوب الناس وعلى عقولهم وعلى حرياتهم، متجاوزين أوامر الله الصريحة والواضحة في كتابه المبين؛ تلك الأوامر التي يقررها المولى في أكثر من مكان، وفي أكثر من سياق؛ فحرية المعتقد –مثلا- مبدأ قرآني أصيل ومتواتر؛ لا ينكره ولا يطعن فيه إلا مكابر شكل التراث غشاوة على قلبه وسمعه وبصره؛ فالله تبارك وتعالى يقرر حرية معتقد عباده، وأن لا وصاية من أحد عليهم، يقول جل من قائل: {لا إكراه في الدين} ومن المعلوم أن هذه الصيغة –لا إكراه- من أقوى صيغ العموم في اللغة العربية؛ لأنها نكرة في سياق النفي والنهي معا؛ أي لا إكراه قبل دخول الإنسان في الدين، ولا إكراه أثناء وجوده فيه، ولا إكراه بعد خروجه منه.. كما يستفهم مستنكرا –جل وعلا- على نبيه –صلى الله عليه وسلم- محاولة إكراه الناس على الإيمان {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} ومع اطراد هذه المفاهيم في القرآن الكريم يأتيك راو ليقول لك إن الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- حاشاه من مناقضة القرآن قال “من بدل دينه فاقتلوه” أو قال “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”.
وقد استطاع هؤلاء التراثيون أن يبعدوا الناس عن القرآن، مستخدمين طرقا شتى، شكلت –مع الزمن- سياجا كثيفا ومتعدد الطبقات على النص المقدس، واهمين العامة –أحيانا- أن الدافع لكل ذلك ليس إلا تقديس القرآن وتعظيمه؛ بحيث لا يكون تناوله متاحا للجميع، وهي حجة واهية، ولا تتماشى مع طبيعة كتاب الله الذي أنزله ليتدبره ويتعقله كل خلقه؛ كي تتأتى إقامة الحجة غدا عندما ينسِل البشر من أجداثه.. فمقولة إن القرآن لا يجوز الكلام فيه ولا الاستدلال به إلا للراسخين في العلم مقولة باطلة لمقصد باطل.. كان الصحابة –على اختلاف مستوياتهم- يفسرون القرآن، فلا شك أنكم تذكرون نزول الآية الكريمة {حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وكيف فسرها الأعرابي حديث العهد بالإسلام (عدي بن حاتم) وكيف أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم ينكر عليه، ولم يطلب منه العودة لأحد أهل العلم؛ رغم أن تفسيره كان خاطئا.. وقد نتج عن تلك المغالطة الكبرى تحييد للقرآن وإفراغ لمكانته؛ لتحتلها الأحاديث والآثار والمتون الفقهية وآراء العلماء؛ فيغدو الوصول إلى القرآن –إن وجدت الرغبة والإرادة- أمرا أشبه بالمستحيل.. أصبح القرآن مهجورا من قبل المسلمين، وأضحى الكلام به –أو عنه- جرما مشهودا.
وقد أتاح هذا الواقع –أو أدى على الأصح- إلى تعدد “الإسلام” حيث أضحى لكل راو إسلامه، ولكل فقيه إسلامه، ولكل عالم إسلامه.. ليتعدد الخطاب الإسلامي –كما سبق وأن أشرنا- وليتنافر؛ بل وليتناقض أحايين كثيرة؛ فاتحا المجال للخصوم وللأعداء لاتهام الإسلام –كدين سماوي نزل من عند الله- بتلك المثالب والمناقص؛ والتي لم تكن في حقيقتها تهمة الإسلام؛ وإنما كانت سمة المسلمين؛ فالإسلام دين الله الواحد؛ الذي أنزله –ممثلا في كتابه- من فوق سبع سماوات على رسوله؛ الذي بلغه بكل أمانة ونزاهة، دون أن ينقص فيه أو يزيد، والله حافظه إلى يوم الدين.. أما المتعدد والمتناقض فهو إسلام الرواة، وإسلام التراث، وإسلام المحكيات والسرديات.
وقد وضع المفكر علي الشرفاء مجموعة من القواعد –مستنبطة كلها من كتاب الله- لإخراج الخطاب الإسلامي من أزمته، ومن تصويب أخطائه؛ ومن أبرز هذه القواعد: خطاب الهدى، وحدة الرسالة، التكليف الإلهي، التذكير بالقرآن، أسلوب الدعوة، وحدة البشر، حرية الاعتقاد، إن الحكم إلا لله، صفات المسلم، طريق السعادة، وطريق الشقاء، الوعد الإلهي.. إلى غير ذلك من القواعد القرآنية الواضحة والصلبة؛ طارحا من خلالها إشكالية أخرى؛ هي إشكالية الكراهية في الخطاب الإسلامي عقيدة وممارسة، وكيف تتجلى تلك الكراهية من زاويتين؛ زاوية داخلية، تتمثل في الكراهية الطائفية، وما تترجم إليه من تكفير وتفسيق وتسفيه وتضليل.. وزاوية خارجية تشرحها نظرتنا لغير المنتمين لديننا، واستباحتنا لأموالهم وأعراضهم ودمائهم؛ هذه الكراهية التي لا تعدو –في صورتيها- غير حقن من أولئك التراثيين، دفعتهم إليها –غالبا- تجاربهم وطموحاتهم الذاتية؛ بعيدا عن الدين الذي كرم الإنسان باعتباره إنسانا فقط، بدون النظر إلى دينه أو عرقه أو لونه {ولقد كرمنا بني آدم} وحفظ له حياته –كذلك- بغض النظر عن أي هوية من هوياته {ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}.
ويحيل المؤلف –أيضا- إلى مفهوم الإسلام في القرآن؛ ذلك المفهوم الذي تآمر عليه التراثيون، وألغوه؛ حيث يعتبر القرآن الكريم كل أتباع الديانات الإبراهيمية مسلمين؛ رغم أن المرويات تحصر المسلمين في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.. يقول الله تبارك وتعالى عن أبي الأنبياء (إبراهيم عليه السلام) مؤكدا انتماءه إلى الإسلام؛ ومن ثم انتماء أشياعه إليه {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} ويقول جل من قائل {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وهذا يعقوب يطمئن قبل الرحيل إلى ربه لانتماء أبنائه بعد رحيله إلى الإسلام {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} وهذا يوسف عليه السلام يسأل الله في لحظة امتنان وعرفان أن يموت وهو مسلم كما عاش {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} وذلك فرعون حين أدركه الغرق قرر أن يعتنق الإسلام دين الإسرائيليين {فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} إلى غير ذلك من الآيات البينات التي توضح –بما لا يدع بابا للشك- أن الإسلام دين لكل الإبراهيميين.
وفي المبحث الثالث “القرآن هدى للناس” يستعرض المؤلف عديد الآيات القرآنية، التي تؤكد أن القرآن –وحده- معبر النجاة، والخروج من غياهب الظلمات إلى براح النور، فتلاوة القرآن، وتدبر القرآن وحدهما السبيل إلى طاعة الله واتباع نبيه، أما غير ذلك –مما امتلأت به الكتب وغصت به الصحف- فليس إلا “الدين الموازي” دين الطوائف والطائفية، دين التناقض والتنافر {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشرُ المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} ولا يقتصر دور المؤمن على اتباع هذا القرآن وهديه؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى إبلاغ الناس به وتوضيحه لهم؛ عكس ما تذهب إليه المرويات، ويذهب إليه الرواة؛ بل إن كتمه –أو عدم إبلاغه- جرم ومنكر لا يأتيهما إلا الملعونون بصريح القرآن الكريم –أعاذنا الله وإياكم- {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} هذا حال أولئك الذين يكتمون آيات الله بعد معرفتها ولا يبلغونها لغيرهم؛ فكيف إذا تعلق الأمر بتجاوز كتمانها، إلى تحويرها وتحريفها، عن طريق إحلال نصوص –مغايرة ومناقضة أحيانا- محلها.
إن أولئك الذين يمارسون تلك الفظاعات يشبهون في ممارستهم ما لعن الله بسببه اليهود وكفرهم لأجله {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} هذه المرويات –بعيدا عن صدقيتها ومصداقيتها- لم تصلنا إلا بعد قرنين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن كان أبلغنا قول ربنا {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} لكن “التراثيين” لم يروا ذلك الاكتمال، أو لم يقتنعوا به؛ ليأتوا بتلك المرويات التي ناءت بحملها الصحف والكتب.. إنهم كذبوا على رسول الله؛ بل وافتروا عليه عظيما حين صوروه وكأنه –حاشاه- يطعن في اكتمال دين الله، بعد أن أقره الله.. وتتجاوز المرويات الكذب على رسول الله إلى الإساءة إليه؛ فحين تجد أحاديث -تصنف بأنها صحيحة- تزعم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حاول الانتحار، وأحاديث أخرى تصور كل حياته اهتماما بالنساء.. وأحاديث تتواتر على أنه مات فقيرا وعاش فقيرا، وهو ما يكذب قوله تعالى {ووجدك عائلا فأغنى} حين ترى ذلك تدرك أنك بالفعل أمام تشويه مع سبق الإصرار والترصد.
هكذا يواصل المحدثون تجاوز القرآن وتركه وراء ظهورهم، غير عابئين بما توعد الله به الذين يمارسون ذلك من سوء منقلب وعدم فلاح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وإذا كان فقهاء القانون يقررون أنه لا عذر لأحد في جهل القانون؛ فإنه –كذلك- لا عذر لأي مسلم بالانخداع بأولئك المغالطين، ولا بمسوغاتهم الفضفاضة المرتبكة “اتباع السلف الصالح” إذ لن يكون لأي شيء من ذلك نصيب من الوجاهة والقبول عند المحاججة؛ لن ينفعنا القول {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} لأن هذه المحاججة لو كانت مغنية شيئا عن أحد لكانت أغنته عن أبي جهل وأبي لهب وأضرابهما.. حين قالوا {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} لن يشفع للإنسان غير اتباع كتاب ربه، والوقوف عند أوامره ونواهيه، لن ينفعه غير الاستماع جيدا والتطبيق حرفيا لقوله تعالى {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}.
وما إن نصل المبحث الرابع “التكليف الإلهي للرسول” حتى يفند المؤلف كل مسوغ لتلك المرويات، أو مبرر لها، وذلك من خلال القرآن الكريم دائما؛ حيث تبين الآيات دور الرسول المنوط به خلال الرسالة، والذي ليس له أن يتجاوزه؛ فالرسول –صلى الله عليه وسلم- اختاره الله من بين كل البشر ليحمل رسالته –المتمثلة في قرآنه- ويبلغها للناس؛ دون زيادة أو نقصان، فما الذي سيدفع المصطفى المعصوم إلى أن يحمل عن الله شيئا؛ ثم يقول شيئا آخر مغايرا ؟ وإذا كان –حاشاه- لا بد فاعلا؛ ألم يكن الأولى به كتم ما جاء من عنده الله، وإحلال قوله مكانه؛ أي تقديم الحديث باعتباره قرآنا من عند الله؟ ألم يخاطبه الله في مصارحة تلغي غير الوحي {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} {كتاب أنزلناه إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين} فمهمة الرسول –صلى الله عليه وسلم- هي تلقي القرآن الكريم من عند الله وإبلاغه للناس؛ غير ذلك مجرد افتراء وادعاء عليه صلوات الله وسلامه يحفانه؛ ولذلك أدى تلك الأمانة أحسن ما تؤدى؛ فاستكتب كتبة الوحي، ولم يتركوا كلمة ولا آية ولا سورة ولا حزبا ولا جزءا.. لم يتركوا شيئا من الوحي إلا وكتبوه؛ لكنهم لم يكتبوا غير الوحي؛ لأنه لم يطلب منهم غير ذلك، ولم يؤمروا إلا به؛ من هنا يتضح لنا لماذا كان أول حديث مكتوب كتب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بزهاء القرنين.
إن استدبار المسلمين للقرآن الكريم واستبداله بمرويات هو ما أدى لفقدان الإسلام للكثير من قيمه ومضامينه؛ مثل الرحمة والتسامح والصدق والأمانة.. تلك القيم التي شكلت مادة إغراء الإسلام وأداة جذبه، وجعلته في أقل من قرن يصبح الديانة الأكثر أتباعا على البسيطة، ومع فقدان تلك القيم ولدت قيم جديدة مغايرة تماما؛ فغدا الدم والقتل والظلم السمة الأبرز للمسلمين منذ معركة الجمل، وحتى أيام الله هذه، وهذه نتائج طبيعية للتنكر للقرآن، كانت واردة؛ بل ومتوقعة، وهو تنكر سيشكو الرسول –صلى الله عليه وسلم- أمته إلى ربه بسببه غدا؛ حين يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يقول الله تبارك وتعالى {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هدا القرآن مهجورا}.
لا أحد بإمكانه أن ينكر أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان الأدرك لعظمة القرآن ولمركزيته في الدين الإسلامي؛ لذلك ما كان له –مطلقا- أن يستبدله بغيره؛ حتى ولو كان ذلك الشيء كلامه هو (صلى الله عليه وسلم) فكيف برسول الله الذي أنزل عليه ربه {من اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} كيف له الإعراض عن كتاب الله بعد هذا الوعيد؟
ويختم المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي هذا المبحث مقررا أن ما يتداول لدينا من مرويات وحكايات لا يمكن أن تكون له علاقة بالنبي –صلى الله عليه وسلم- لأن ذلك يتناقض والوظيفة التي اختاره الله لها؛ وظيفة التبليغ، وأنها تتناقض –كذلك- مع قوله تعالي {اليوم أملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” وهي آية كريمة نزلت ولا وجود لأي حديث ولا أثر.. حتى المؤمنون بالحديث لا يمكنهم ادعاء وجود حديث قبل وجود هذه الآية، أما اتباع النبي –صلى الله عليه وسلم- والتأسي به فهو مطلوب ومرغوب؛ لكنه يكون من خلال القرآن الكريم، وعبر التأسي بصفاته المثبتة فيه؛ في أخلاقه الجميلة {وإنك لعلى خلق عظيم} وفي رحمته المشهودة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وفي لينه وعطفه البارزين {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
ويستنكر المؤلف على التراثيين ترسانة النصوص التي يتحكمون عبرها في مصائر الناس غدا؛ حيث يحكمون على فلان بالجنة، وعلى علان بالنار، ويوردون الطائفة الفلانية الجنة، والطائفة الأخرى النار، ويقضون على دين بالتحريف، وعلى دين آخر بالسلامة.. حيث يتنافى هذا المسلك كليا مع تقرير القرآن الكريم؛ الذي يترك مصائر شعوب الله لله، ليس ثمة قاضيا غدا بين خلق الله غير الله {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} وفي موضع قرآني آخر {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} لتكون الخلاصة أن الطريق الأمثل –بل والأوحد- لتصويب الخطاب الإسلامي هو العودة به إلى الأصل وتنقيته من كل الشوائب التي مزجت به، باختصار شديد: العودة إلى القرآن الكريم.
وفي ختام المباحث يأتي بيت القصيد أو فرس الرهان؛ يأتي لب الموضوع وعصارته “القرآن بين التنزيل والتضليل” حيث يرسم هذا المبحث خارطة واقع الإسلام ومؤمله؛ موضحا تلك المغالطات الكبرى التي ارتكبها –ويرتكبها- التراثيون؛ من خلال الإيهام أن الأحاديث ليست إلا شروحا للقرآن وتوضيحا له، وهي مغالطة خدعت الكثير من المؤمنين والطيبين عبر التاريخ الإسلامي الطويل.
ويستهل هذا المبحث بفهرس للأحاديث، يبين درجاتها وأنواعها؛ حسب مصطلحات أهلها؛ ليوضح مستوى التيه والتشرذم الذي أوصلتنا إليه، وهو ما يبرر الحكم أن تلك المرويات لم تكن غير مؤامرة قاسية على الإسلام، وعلى عموده الفقري؛ الذي يشكل حقيقته، ويشكل فارقه (القرآن الكريم) الذي لو ملك أولئك المغالطون القدرة على تحريفه لكانوا ربحوا الوقت وفعلوا، واستغنوا عن فكرة الأحاديث؛ لكن الله تعهد بحفظه، من هنا لم يكن أمامهم غير اللجوء لنص موازي (الحديث) مزاولين عبره جريرتين عظيمتين: تحريف دين الله، والتقول على رسول الله.
وقد تطرق الكتاب –كذلك- للفروق بين السنة الفعلية والسنة القولية، ومفهوم الأسوة الوارد في القرآن الكريم، والمؤلف في هذا الطرح لا يعترض على كل المرويات، أو لا يرفضها كلها؛ إنما يتعاطى معها وفق آليات ومعايير منهجية وموضوعية.. إن الأحاديث المنسجمة مع دور النبي –صلى الله عليه وسلم- في القرآن مقبولة مبدئيا؛ إذا لم يعق متنها أو سندها عائق.. أما الأحاديث التي تتعارض والقرآن الكريم، أو تتجاوز بالنبي –صلى الله عليه وسلم- دوره ومكانته؛ فهي مرفوضة –أيضا- مبدئيا؛ حتى وإن حكم كل أهل الحديث بسلامة متنها وسندها، وباستجابتها لكل شروط الصحة لديهم.. ويلفت –في هذا السياق والصدد- إلى أهمية انسجام كل الممارسات الدينية مع مضامينها وفق المفهوم القرآني؛ فالصلاة –مثلا- ليست رياضة ولا حركات بهلوانية عابرة؛ وإنما هي –قبل ذلك كله- قيم ومفاهيم وأخلاق {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} لذلك فالذين يأتون الفحشاء والمنكر لا يمارسون الصلاة أبدا؛ حتى وإن سكنوا المساجد والمنابر، والذين لا يتناهون عن المنكرات من تكفير الناس واستباحة أموالهم وأعراضهم ودمائهم.. ولا يتعاونون على البر والتقوى من فعل خير وصالح، وبث لقيم المحبة والتسامح والتآخي.. الذين لا يفعلون ذلك لم يفهموا دين الله الذي أرسله عبر قرآنه؛ وإنما انتموا لدين التراثيين والحكواتيين؛ ذلك الدين الذي ما أسس على التقوى من أول يوم، وما أريد به وجه الله، وإنما كان اختطافا باكرا لدين الله؛ إنه على رأي المفكر علي شريعتي “دين ضد الدين”.
ولا ينسى المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي أن يتجاوز المهاد النظري إلى الفضاء التطبيقي؛ موردا نماذج حديثة ومعاشة من تشويه الإسلام عبر تلك المرويات (الأحاديث) فحركات الإسلام السياسي –التي مثلت منذ الأزل الحاضنة الرئيسة لتلك المرويات- تبرر كل ممارساتها الفاحشة من قتل وتفجير وحرق وذبح.. تبرر كل ذلك بأحاديث ومرويات لا صلة لها بلب الإسلام ولا بحقيقته.. هل ننسى حرق الطيار الأردني وتسويغ ذلك الحرق وتبريره من خلال الأحاديث والآثار؟ بل أكثر من ذلك رأينا البعض ممن يتبرؤون –في العلن- من الإرهاب والإرهابيين، ويصفون أنفسهم بالمعتدلين؛ رأيناهم يفتون بجواز حرق الأعداء، وأن “شيخ الإسلام” أفتى بذلك، وأورد فيه أحاديث صحاح.
هكذا نرى أن الكتاب انسجم –بالفعل- محتواه مع عنوانه.. إنه حقا ومضات وإشارات نجاة على طريق حالك، تحفه المخاطر والمهالك، طريق سود بالمرويات والسرديات التي لم يكن يسعى أصحابها من ورائها إلا إلى تحريف هذا الدين وتشويهه، إنهم وضعوا غشاوة من مروياتهم على عقول الناس وعلى قلوبهم شكلت حاجزا وحائلا دون هذا القرآن الكريم والجميل والعظيم.. ولا يزال مفعول تلك المرويات سيارا؛ حتى يومنا هذا.. أليس من الغرابة بمكان أن تفخر غالبية المسلمين اليوم باسم هو نتاج سياق سياسي صرف (السنة والجماعة) تم تتبرأ –بل وتسخر- من تسمية وفق لب الدين نفسه؛ أي انتماء للإسلام يمكن أن يكون أصدق وأخلص من الإضافة لكتاب الله (القرآنيون) تلك الإضافة التي أضحت –نتيجة ما أسلفنا- تحمل شحنة سالبة، يذم بها، ويتبرأ منها ؟ أي منطق يمكن أن يجعل من الإضافة للقرآن معرة أو منقصة؟
لقد رصد المفكر علي محمد الشرفاء رحلة المسلمين الطويلة بين آيات الله وروايات التراثيين؛ فأخرج خطواتهم وهم يسيرون خلف الرواة، ويولون ظهورهم للقرآن؛ ربما دون أن يشعروا. إن قرونا من تراكم الأخطاء والسير عليها كفيلة بطمس كل صواب وكل حقيقة، ولولا أن الله تعهد بحفظ كتابه لكانت المرويات والحكايات حلت محله، ولولا أن الله قيض له رجالا يفكرون، ويستخدمون عقولهم –من أمثال المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي- لكانت رحلة الطمس هذه ظلت على وتيرتها، وظلت المرويات في ازدياد؛ لكن الله متم نوره، ولو كره الرواة.. سيقول الكثيرون –في ختام قراءتهم لهذا الكتاب- إن مؤلفه “قرآني” وليس سنيا ولا شيعيا ولا معتزليا.. وصدقوا إنه قرآني يدعو بالقرآن وإلى القرآن.
ومعذرة في الإطالة إن كانت حصلت؛ فالموضوع ذو شجون.
أتمنى أن أكون وفقت في خلاصاتي عن هذا الكتاب الرائع مبنى ومعنى
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

زر الذهاب إلى الأعلى