ما بين العنف الفقهي والقانوني / سحر الجعارة
لم يمضِ شهر على مقالى المنشور بجريدة «الوطن»، بعنوان «المادة «98» المشبوهة»، بتاريخ الثلاثاء 17 نوفمبر 2020، إلا وكان المفكر الإسلامى المستشار «أحمد عبده ماهر» ماثلاً أمام النيابة بتهمة «ازدراء الأديان»!.
إنها المادة التى كتبت عنها: (آن الأوان لمحاكمة المادة «98» من قانون العقوبات، المسماة «ازدراء الأديان» لتعارضها مع دستور البلاد.. فالمادة «٦٥» من الدستور تنص على أن (حرية الفكر والرأى مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر).. ولدينا هيئة قضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية فى مصر، وهى المحكمة الدستورية العليا، ومهمتها مراقبة تطابق القوانين مع مواد الدستور، فهى تقوم بإلغاء القوانين التى تخالف نصوص ومواد الدستور المصرى).
لقد أصبح من المعتاد والمكرر بالنسبة لتيار الاستنارة أن تتم مطاردتهم بهذهالمادة اللعينة، وأن تُتّخذ سيفاً مسموماً لاغتيال العقل المصرى حتى يحرمه «الحق فى الاجتهاد»، وأن يكف عن «التفكير»، ويركع لتابوهات بشرية مقدّسة: (البخارى ومسلم وتفسيرات الفقهاء للنص القرآنى).. المطلوب أن نخضع لفتاوى (قتل المرتد، وسبى النساء، وأكل لحم الأسير.. إلخ).. وأن نصدق أن نبى الرحمة «عليه الصلاة والسلام»، كان مسحوراً ويئس إلى درجة التفكير فى الانتحار!!.. إلخ ما تم إلصاقه بالتراث الإسلامى من أكاذيب وخزعبلات لا أساس لها من الصحة.
وكأن المستشار «ماهر» أطلق المارد مجدداً من القمم، انتقد البخارى كثيراً وطويلاً و«حان قطف رأسه».. فهو شخصية مثيرة للجدل، صادم وجرىء، وضعته آراؤه ومواقفه، خاصة المتعلقة بالتراث الإسلامى، فى خصومة شديدة مع «المؤسسة الدينية»، ومع معظم مَن يقدسون التراث، لأنه أول مَن هاجموا «صحيح البخارى» وكذّب معظم ما جاء فيه، إلى درجة أن البعض وصفه بـ«عدو البخارى».. كما أنه أول مَن هاجموا «مناهج الأزهر» وبيّن ما فيها من مناهج تتسبّب فى انتشار التطرّف والإرهاب فى مصر والعالم بأسره.
لم أجد أحداً كتب وناقش «المناهج الأزهرية» أكثر من المستشار «ماهر».. فقد أقام أكثر من ثلاث دعاوى قضائية ضد الأزهر بسبب المناهج التى يدرّسها للتلاميذ، ورغم أن هذه القضايا عمرها ما يقرب من 12 سنة، فلم يصدر حتى الآن قرار قضائى فيها!.
كان من المخجل وما يدعو للفخر فى آن واحد أن تجد بياناً من المثقفين والمفكرين فى المغرب العربى للتضامن مع المستشار «ماهر»: (لأنه مفكر تنويرى وليس قاتلاً.. المفكر «أحمد ماهر»، تم إطلاق سراحه مؤقتاً بكفالة قدرها عشرون ألف جنيه مصرى، وللعلم فإن الكاتب يمر بمرحلة صحية حرجة، ومتقدم فى السن). لكنه خرج من النيابة قوياً لم تهزمه المادة «98» المشبوهة.. إن قضيته تتجاوز قضبان السجون وحملات التشهير والتكفير.. إنه يدافع عن وطن يُغتال كل يوم بفتوى جديدة.
يتهم «ماهر» الكتب التعليمية فى الأزهر، وبالأخص كتاب «الإقناع فى حل ألفاظ أبى شجاع»، وغيرها من الكتب التى تُدرّس للطلاب بأنها كتب تقود الشباب إلى العنف والعمل المسلح.. ويقول: هذه الكتب تزعم أن المسيحيين كفار وتدعو المسلمين فى البلاد المسلمة إلى هدم كنائسهم، ودون استئذانهم، وهذا الفكر ولّد العداء فى قلوب المسلمين تجاه المسيحيين وضرب معانى الأخوّة… وتكرّس ما سماه «العنف الفقهى المتوارث» وطبقات الجهل المتراكمة فى عقلية هؤلاء الإرهابيين.. الرجل الذى كتب ليواجه العنف الفقهى، الآن يواجه «العنف القانونى»!.
فى سنواتنا الأخيرة، قد تأتى مبكراً يأساً وإحباطاً، يشعر الكاتب أو المفكر أنه سيقول كلمته ويمضى، وأنه إن لم يلقَ مكافأة الإصلاح فى الدنيا فقد يلقاها فى ما بعد الموت.. بهذا الإحساس يسطر المستشار «ماهر» حروفه مؤخراً، ويبث تسجيلاته بالصوت والصورة.. بعض البشر لا يهابون «السلطة الدينية» لأنهم يدافعون عن الإرادة الإلهية.
والإسلام لم يبعث نبياً بعد سيدنا «محمد»، ولم يبشّرنا القرآن الكريم بالبخارى ولا مسلم ولا صاحب العمامة ولا الكاهن الأكبر.. فلسنا مأمورين إلا باتباع «القرآن الكريم».. حتى لو أُنشئ للبخارى ألف مركز، ونشرت له آلاف الكتب فلن نصدق إلا عقولنا.
وبعيداً عن أروقه المحاكم.. أصدرت هيئة كبار العلماء بالسعودية بياناً قالت فيه إن: (الإخوان المسلمين جماعة إرهابية لا تمثل نهج الإسلام.. وتابعت الهيئة فى بيانها يوم 11 نوفمبر أن «الجماعة تتبع أهدافها الحزبية المخالفة لتعاليم الدين»).. فهاجت بعض وسائل الإعلام المصرية تطالب الإمام الأكبر الدكتور «أحمد الطيب» شيخ الأزهر، بإصدار بيان بشأن جماعة الإخوان الإرهابية، يماثل بيان هيئة كبار العلماء فى السعودية.
لكن المؤسسة الدينية الرسمية لا تُكفّر الجماعة التى صنّفها القانون المصرى «إرهابية»، بل يتم غسيل ماضى بعضهم لتولى المناصب القيادية المهمة.. نحن نكفر فقط دعاة العلمانية (فصل الدين عن الدولة) ورموز الاستنارة.. إنها حرب لن تنتهى إلا بانتصار أحد الطرفين: الدولة المدنية أو عمائم الدولة الدينية!.