هل – حقا – فقد الشعب الامل…؟!
هل -حقا- فقد الشعب الأمل..؟!
أثارت “صوتيات” الأستاذ المحترم هارون ولد أحمد جدلا صاخبا وحادا، وتخندق حولها المتعاطون تخندقا لا يخلو -هو الآخر- صخبا وحدة، وذات الشيء -تقريبا- حدث مع إقالته؛ لكن هذا الصخب والحدة ما لبثا أن تجاوزا الحدثين (الصوتيات والإقالة) إلى شخص المعني (تلميعا أو تجريحا) وهي ثقافة مألوفة في هذه الأرض؛ حيث اعتدنا تنكب نقاش الأفكار؛ بل والأحداث؛ إلى نقاش الأشخاص، ليس منا من لا يعرف تلك الشنشنة من أخرم..!
انطلقت هذه “الصوتيات” من مسلمة أن الدولة تعيش ما أسماه الجنرال ديغول “الميوعة الرسمية” أو ما يسميه المفكر محمد يحظيه ولد أبريد الليل “الفطانگيات” لتحاول -عبر خليط من سرد الأحداث وتحليلها- البرهنة على صحة تلك المسلّمة، أو تلك “النتيجة المسبقة”.. كل هذا من خلال لغة سلسة أنيقة (مع أنها كان يليق بها أن تكون أكثر حصافة) وأفكار متماسكة جادة؛ رغم ما شابها -أحيانا- من نفس سخري؛ لا يعيبها بالضرورة..!
لست معنيا -كما أسلفت- بالدوافع وراء تلك “الصوتيات” ولا الأهداف المتوخاة منها؛ فما يعنيني هو مدى واقعية ومنطقية الأخبار والتحاليل التي حوتها تلك “الصوتيات” والتي -في تقديري- ليست إلا رأيا سياسياً، يحق لأي كان أن يختلف معه أو يوافقه؛ إلا أنه لا يستحق الكثير من التجريح ولا الكثير -أيضا- من التلميع..!
أبانت التسجيلات الصوتية عن تصنيف للمجتمع -باعتبار القدرة على الفهم والاستيعاب- يحمل شيئا ليس يسيرا من تعالي السياسيين، وازدرائهم لباقي الفئات؛ فليس الموظفون ولا الأطباء ولا المهندسون ولا العسكريون.. ليسوا غير “قطعان من الغوغاء” لا تملك قدرة على استيعاب ولا فهم الأمور السياسية.. حتى “النخبة السياسية السائدة” نخبة مزيفة؛ لأن الأستاذ حين تكلم عن النخبة، تكلم -فقط- عن “النخبة الحقيقية الصامتة”..!
وإذا كان هذا “هو” رأي الأستاذ في “طبقة البلد الوسطى” وفي “نخبة البلد السياسية” فمن الطبيعي جدا أن لا يرى أولوية -بل ولا جدوائية- في برنامجي التحويلات المالية والتأمين الصحي؛ لأن المستفيدين منهما ليسوا سوى الطبقة الهشة كثيرا والساحقة أكثر..!
لكن هذا التحليل -أو هذا الاستنتاج- لا يستقيم مع “نظرية الانفجار” التي “يبشر” بها، أو “يخوف” منها الأستاذ، والتي رأى من مظاهرها الأساسية ما أسماه “انعدام المرونة الشعبية” الناجم عن “فقدان الأمل” فما هو الشعب -ترى- في نظر الأستاذ؟ وما الذي يبعث الأمل لديه؟
قد لا يكون مبلغ ٣٠ ألف أوقية (قديمة) ذا قيمة في ذهن موظف سام، يتقاضى أضعافه عشرات المرات؛ لكنه ذو قيمة (بغض النظر عن حجمها) في حسابات عجوز معيل، لا تسعفه قدراته ولا وسائله في مزاولة أي عمل!
وإذا كان فاقدو العمل والعاجزون عنه يحتاجون -بالفعل- ما يأكلونه أولا (رغم أن أستاذنا قلل -مبدئيا- من قيمة توفير الحد الأدنى لهم من ذلك) فإنهم -مع ذلك- يحتاجون العلاج، ويحتاجون الدواء، وعدم توفيرنا لهم مستشفيات بمقاسات معينة؛ لا يعفينا -أخلاقيا على الأقل- من مسؤولية توفير المتاح لهم من علاج ودواء..!
في تقديري أن ما يربو على العشرين في المائة من سكان دولة (أي دولة) لا يمكن القفز عليه في استطلاع للرأي جاد وصادق، وأرى -كذلك- أن توفير بعض حاجيات هذه النسبة الهامة (غذائيا ودوائيا) مهما كان ذلك التوفير ناقصا؛ إن لم يكن (ذلك) مدعاة للأمل لا يكون دافعا لفقدانه..!
لا شك أن الاستفادة من تراكمات ظاهرة ما في تحليلها مسلك منهجي محترف؛ لكن محاكمة تجربة اتكائا على سياقات تجارب مغايرة ليس فنيا ولا عادلا.. ولا يختلف كثيراً عن اعتبارنا إعادة تجارب فاشلة حلا لإشكاليتنا.. من هنا فإن اعتبار الرئيس هو الدولة جزء من فلسفات سياسية سابقة، لا نعتقد أنها آتت أكلا في سيرورتنا؛ بل نراها مثّلت جزءا من تعثرنا المزمن..!
فسّر الأستاذ -حرفيا- الرئيس بأنه الدولة، وفعل ذلك -ضمنيا- حين طالبه -في سياق حثه له خلق هوية لنظامه- استنساخ تجارب الرؤساء السابقين، وهو شيء يدعو للاستغراب؛ إذ من غير المنتظر أن يدعو مثقف حصيف -بكل هذه الصراحة- إلى “السلطوية” وإلى الاعتماد -في اختيار الفريق- على الولاء الشخصي! أي معنى لقول الأستاذ إن الوزير الأول لم يستطع إحاطة نفسه بمقربين منه؟ وأي معنى للكلام عن حكومة من موظفي نظام ولد الطايع ونظام ولد عبد العزيز؟
نقاش استقامة الموظف وكفاءته أمر مطلوب ومرغوب، والاعتراض عليه انطلاقا من أي منهما سلوك منهجي وموضوعي؛ لكنه لا معنى لربط الاستعانة بالموظف -من عدمها- بالولاء لشخص (أي شخص) هكذا تملي قيم الدولة الوطنية؛ التي ينطلق الأستاذ -دون شك- منها؛ فالموظف موظف -في النهاية- للدولة، وليس للأشخاص..!
إن “الارتباك” الذي شاب تحاليل الأستاذ -في تقديري- واستنتاجاته يعود إلى اعتماده على أدوات لسياقات مغايرة؛ لأننا لا ينبغي أن نختلف في أن الدولة ليست فردا، ولا حتى نظاما.. والدول التي تتربع -اليوم- على قوائم مؤشرات التنمية والديمقراطية والحرية والصحة والتعليم والخدمة الاجتماعية.. (دول إسكندنافيا نموذجاً) دول لا يعرف غالبية الناس لهم اسم رئيس ولا وزير..!
يعترف الأستاذ أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وجد أمامه إرثا ضخما من تراكم الفساد (وهو شيء معروف ومفهوم) مما يعني أن الرجل انطلق من أرضية -في الأصل- ملغومة وشائكة.. لكن الأستاذ مع اعترافه (هذا) لم يكن يرى في “جائحة كورونا” ولا في “ملف العشرية” أي عقبة في وجه تلك “الثورة” التي كان يتوقعها، أو يتمناها “ولد أبريد الليل” مع أنه -في محاولة البرهنة على صحة هذه الفرضية- لم يزد على طرح فرضية أقرب هي للفلسفة منها للسياسة (ماذا لو لم يظهر ملفا كورونا والعشرية!؟) في استدارة متوقعة من كاتب يرمق “ولد أبريد الليل” بعين، والعين الأخرى على “آندريه مالرو”!
الواقع الجلي أن “كورونا” هزمت الاقتصاديات العالمية الكبيرة والمتطورة (أوروبا والولايات المتحدة) وشلت حركية أكثرها ديناميكية (الصين والهند) فكيف إذا تعلق الأمر باقتصاد بدائي، أنهكته عشرات السنين من التخريب الممنهج! واقع الصحة عندنا -مثل عديد القطاعات- واقع مزر، والدول التي تملك منظومة صحية متقدمة انهارت واستسلمت أمام هذا الوباء؛ فكيف بنا، والوباء دخل إلينا ونحن لا نملك -حتى- صيدليات تنسجم مع الحد الأدنى وفق المقاسات المتعارف عليها.. أما المستشفيات والمعدات والطواقم.. فحدث دون حرج..!
لست هنا مدافعا عن الوزارة، ولا عن خطتها في مواجهة كورونا؛ بل لعلي لدي ما أقوله -وقلته- بذلك الشأن؛ لكنني أريد القول -فقط- إن “كورونا” لم تكن شماعة؛ وإنما كانت -بالفعل- حقيقة؛ مع أنني -من باب الموضوعية- لم أر من النظام -رسميا على الأقل- من استخدمها مبررا أو حجة لتأخر مشاريع أو برامج تنموية.!
ذات الأمر -تقريبا- ينطبق على “ملف العشرية” فبغض النظر عن مدى الوجاهة فيه أو الحقانية؛ يبقى ملفا واقعيا عشناه ونعيشه، وكان له أن يهدد استقرار النظام؛ إن لم يكن استقرار البلد برمته! خصوصا أن المتهم الرئيس في هذا الملف طالما برهن على استعداده مقايضة البلد وأمنه واستقراره بمصالحه الشخصية ومكتسباته..!
هل ننسى يوم قال للجزيرة -وبأعصاب فاترة- أنه انقلب على “الرئيس المنتخب” لأنه عزله من منصبه؛ بل أكثر من ذلك؛ وصف عزله بأنه تهديد لسكينة البلد..! كان ذلك رأيه، وتلك ردة فعله؛ وهو لمّا يصل -بعد- إلى السلطة؛ فما المتوقع منه بعد اثنتي عشرة سنة من ممارسة السلطة..! إذن؛ لم يسعف المنطق -أيضا- أستاذنا في اعتبار “ملف العشرية” سحابة صيف عابرة..!
كان على الأستاذ (وهذا رأي شخصي) أن يجمع بين “حسه الوطني” و”حسه بالمسؤولية” فحين أحس بكل هذا الخطر المحدق بوطنه، كان يليق به -أيضا- أن يتذكر مسؤوليته القانونية؛ فتكون التضحية رمزية (أي بالوظيفة فقط) لأنه يجدر بمثله من المثقفين البرهنة على القدرة على ممارسة المسؤولية؛ وليس التنظير لها فقط.. الاستقالة أكثر انسجاماً مع هذا التحليل من الإقالة، أو من استجداء الرفاق عدم نشر التسجيلات..!
ختاما؛ أخذ بعض الناس على الدكتور حماه الله ولد السالم -في منشوراته السياسية الاجتماعية الأخيرة- كثرة إحالته لـ”الشنافي”، وزعموا أن بعض تلك الإحالات لا تتناسق وفكر الشنافي، والحقيقة أن الدكتور كان في غنى عن وضع نفسه في “مظان الشبه” لا أعتقد -مبدئيا- أن الأستاذ هارون يختلف كثيرا في إحالاته لـ”أبريد الليل” عن الدكتور حماه الله..!
أحمد ولد الحافظ