متى يعود الوعي “الضائع”؟ / الولي سيدي هيبه
يقول خيري منصور: “وعي التخلف ظاهرة صحية وحيوية، ومعناه أن المريض بدأ يشعر بالألم ويحدد مكانه ويتعاطى العلاج اللازم للشفاء، أما تخلف الوعي فهو توغل في المزيد من الظلام والمكابرة وإنكار الألم، وأكثر من ذلك هناك من ضحايا التخلف ومحاصيل شقائه من يزهون بجهلهم وتأخذهم العزة بالإثم حتى الهلاك، فالتخلف بحد ذاته ليس عارا، خصوصا إذا كان له أسباب تاريخية مزمنة كالاستعمار والتجهيل المبرمج وظلم ذوي القربى، لكن العار هو في التغاضي عنه والتواطؤ عليه، تماما كمن يخفي جرحا في جسده بلا تضميد لأنه يخجل من سببه، ثم يتعفن الجرح ويسمم الجسد كله”.
ما كان تدني مستوى الوعي العام للشعب الموريتاني ـ من بعد ما عرف منه قبل أربعة عقود لتشكله لديه ـ إلا ليقض مضاجع النخب ويحفزها على الاستدراك من هول السقوط ونفث روح من عندها لتلافي هذا السقوط إلى الهاوية؛ هاوية اللاوعي المفضية إلى الانحدار لقاع اللاوجود.
ولا شك أن غياب “وعي التخلف” في المجتمع الموريتاني بات ظاهرة تنبئ بخطر يزداد انتشارا وتفاقما؛ الأمر الذي يستدعي وبسرعة تضافر الجهود من كافة الأطراف؛ سواء كانت مؤسسات الدولة أو منظمات المجتمع المدني، و من الفرد العادي كذلك والمواطن البسيط والنٌخبة والمثقفين والكـتاب والصحفيين ورجال الدين وأعلام الإعلام، وأيضًا رجال وسيدات الأعمال و كل وطني شهم غيور وكل أب مربي وأم مربية وكادح وعامل و كل مزارع وعالم وباحث ومدرس وجميع أفراد المجتمع.
وإذ لا تمكن محاسبة النخب التي ولدت قبيل ومع الاستقلال وانطفأت من بعد جذوتها المتقدة إلا من بعض شموع تناقص ضياؤها وخار صوتها، مبعثرة هنا وهناك لا تكاد تَلقى سمعا بما تبقى لها من قوة النطق من أحد أحرى أن تكرم ويستغل إنتاجها.
ولأن المد “التناولي” إن جاز التعبير ـ للقضايا الكبرى التي تتمحور حولها مسألة البقاء في ظل الدولة السوية أو غلبة التفكك ـ والاضمحلال تحول من مدارج النخبتين الثقافية والسياسية إلى فضاءات التناول الشعبي بوسائل التواصل والتبادل الاجتماعي التي أتاحها العصر في تطوره المذهل وقوة أضوائه الطاردة لكل بؤر الظلامية والكهوفية، فقد بات من المعلوم أنه :
– عندما يعتقد الفرد أنه بشغله منصبا حكوميا لفترة تطول أو تقصر وتبجحه بأنه يخدم بها البلد ـ حتى و أن هذا من معايير الوطنية – وقد كان مواطنا “يعمل” بشكل طبيعي ويتقاضى “راتبا” و”علاوات” مقابل عمله ، فإنه بديهيا يعاني مشكلة نقص واختلال وغياب وعي،
– ولما يعتدي هذا الموظف والعامل على المال العام ويستبيحه بلا وازع أخلاقي أو وطني أو ديني، فإنه يعاني كذلك مشكلة غياب الوعي،
– وعندما يفقد قيم الإتقان والنزاهة والالتزام، فإنه أيضا يعاني مشكلة غياب الوعي،
– وعندما يسعى إلى انتخاب نائب أو عمدة إكراما واصطفافا فجا قبليا أو عشائريا، أو إثنيا أو غرضيا ماديا أو لأي شيء آخر خلافا للمصلحة العامة، فقد ارتكب جريمة في حق نفسه وأهله وبلده، وهو بذاك يعاني قطعا مشكلة غياب الوعي،
– ولما يهلل ويطبل لمسؤول بغير دافع وطني فإنه يرتكب خيانة ويعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يلقي من دون اكتراث القمامة في الأماكن العامة ويتجاوز إشارات المرور ويحتل الأرصدة ويركن سيارته حيثما شاء، فإنه حتما يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يكون سلبيا ولا يحس بالأمانة والواجب وهو غير مفيد مطلقا لأسرته ومجتمعه وبلده، فإنه كذلك يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يكون مريضا ولا يعزل نفسه خوفا على غيره فإنه من دون شك يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يتنازل من ضعف عن حقه فإنه يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما لا يستطيع الاستمرار في أداء عمل جيد ومتقن، فإنه يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يقلع عن الطموح أمام أول نكسة تعترضه، فإنه يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يغلبه ثم يسيطر عليه اليأس فلا يصارع، فإنه يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يفقد روح الجماعة وتسيطر عليه الأنانية، فإنه يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يموت الأمل داخله من دون مقاومة، فإنه حتما يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما تهجره الرغبة في الكفاح من أجل التغيير إلي الأحسن والأرقى، فإنه يعاني كذلك مشكلة غياب الوعي،
– ولما يحتمي في جلابيب الماضي من عجز عن مواءمة الحاضر واستشراف المستقبل، فإنه يعاني محبطا مشكلة غياب الوعي،
– ولما يرى تفاقم طبقية التفاوت ومثالب الغبن فلا ينبس ببنت شفة ولا يسعى بفعل، فإنه يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يساهم في تغييب من المشهد دور الشباب كوقود للأمة والمرأة كمربية وموجهة للأجيال، فإنه تأكيدا يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يساهم في تغييب الفلاحة وأرضها الخصبة عن المشهد ولا يسعى لتحسين الثروة الحيوانية وإنتاجها ثم يترك الحبل على الغارب للتجار الجشعين ورجال الأعمال المهملين، فإنه حتما يعاني مشكلة غياب الوعي،
– ولما يشاهد عاجزا بل ومشاركا ومتواطئا خيرات بلاده محط الأطماع الخارجية، والصناعة التحويلية مغيبة عن الاهتمام وصدارة البرامج التنموية، فإنه يعاني يقينا مشكلة غياب الوعي،
– ولما يعجز عن وضع الصحة والتعليم على رأس الأولويات ولا يبالي بغياب تكوين الإنسان من عجز عن رفع التحدي، فإنه يعاني خائرا مشكلة غياب الوعي.
– ولما يرى، الأحزاب السياسية بأيدي أفراد يلتحفون عباءات الماضوية ومجتمعا مدنيا يقوده النفعيون بلا برامج ولا أهداف وطنية، فلا يحرك ساكنا فإنها حتما يعاني مشكلة غياب الوعي.
أو ليست منذ أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي وهي تبعث رسالة مكشوفة إلى النخبتين الثقافية والسياسية لمراجعة واقع الجمود المرير والبحث من جديد عن الوعي المفقود لاستعادته في كافة مناحي الحياة في البلد؛ رسالة تناشد أيضا بتدارك الأمور سعيا إلى بعث الأمل من جديد في النفوس لاستنهاض الوعي الخائر في العقول من خلال إعادة بناء “القدوة” الحسنة الصادقة والقادرة وحدها على بعث هذا الأمل إذن قبل فوات الأوان، وعلى إعادة إحياء “همة” النهوض إلى تحقيق التقدم بوسائل العصر المتاحة التي أخذت بها شعوب كثيرة في عديد دول اختارت لنفسها بالعزم والإصرار “حكامات” رشيدة، مخلصة وقادرة على تحقيق النجاح، وكذلك نخب واعية للاضطلاع بدورها الطلائعي في محاربة الجهل ومطاردة “اليأس” الخطيرين على مسار البلد.