“أكاديميات” رياضية منسية

على هامش عالم رياضي يعج بالنشاط والحركة والمال والدعم والاعلام ،  توجد “أكاديميات” رياضية تصارع من أجل البقاء بجهودها المتواضعة وامكاناتها البسيطة . ما يبقيها حية – رغم التحديات  – هو عزيمة أصحابها القوية، وعشقهم الابدي  لكل ما هو رياضي ، فكانوا هم الفرصة والبديل المتاح لمن لا حيلة لهم من أبناء المعوزين الطامحين للشهرة والمجد في عالم الرياضة المغري ، وقد شكل ذلك بالنسبة لأصحاب هذه “الأكاديميات” – كما يحلو لهم أن يصفوها – حافزا ودافعا آخر ليواصلوا المشوار كل حسب المجال الرياضي الذي يتقنه.

المدرب “الحسن كمرا”، الحلم الذي تحول إلى واقع.

في أحد الاحياء الفقيرة بالعاصمة الموريتانية نواكشوط أمضى الشاب ولاعب كرة القدم السابق “الحسن كمرا” سنوات طويلة وهو يراقب الصبية الصغار يداعبون الكرة بأقدامهم الحافية في الأزقة والشوارع الضيقة ، شعر بالحسرة والحزن على المواهب الكروية النادرة التي تضيع دون رعاية ، لا تجد من يعتني بها أو يقدم لها على الأقل ابجديات اللعبة التي تعلقت بها كثيرا . دفعه حبه لهؤلاء الصغار الذين يقاسمونه الوطن  نفسه والحي نفسه والمشاكل نفسها التي مر بها في صباه، إلى اتخاذ قرار شجاع فيه الكثير من التضحية والايثار على النفس ، فقد قرر التطوع لتدريبهم وتعليمهم ما لديه من معارف وخبرات في فنون لعبة كرة القدم ، وهو الذي عشق هذه اللعبة ومارسها منذ الصغر واكتسب فيها مهارات تؤهله – على الأقل – ليكون مؤطرا لمراهقي حيه المبتدئين.

في مطلع سنة 2000 ، بدأ الحسن كمرا  أولى خطوات مشروعه الصغير ، فأختار فضاء رمليا منزويا في اطراف مقاطعة الرياض بضواحي نواكشوط ، واختط فيه ملعبا بمقاييس الملاعب القانونية ، وشرع في تدريب مجموعة صغيرة من المراهقين اليافعين ، ولأنه كان يحظى بسمعة طيبة في أرجاء الحي  كلاعب مهاري وذو اخلاق عالية،  تدفق إليه العشرات من الشباب الشغوفين بلعبة كرة القدم ، وانقادوا له كمدرب ومرشد وموجه ،، وهكذا تحول ملعب الحسن كمرا الرملي من منطقة مهجورة معزولة إلى مكان يعج بالحركة والنشاط اليومي ، تدريبات متنوعة ، فرق ومباريات ومنافسات لا تتوقف ، ومع الوقت ذاع صيته في ارجاء مقاطعة الرياض، بل في مختلف مقاطعات العاصمة نواكشوط ، ليصبح بذلك صاحب أشهر مدرسة أو “اكاديمية “لكرة القدم في موريتانيا .

 واقعها الأكاديمية الراهن يؤكد تلك الحقيقة ، شباب من مختلف الاعمار والأعراق شدوا الرحال اليها بحثا عن فرصة ، سألت احدهم (احمد 16 سنة) وهو يأخذ استراحة بعض حصة تدريب مضنية ، من اين اتيت ولماذا هنا بالتحديد؟ ، رد قائلا ” قدمت من الحي المجاور لأني اعشق كرة القدم وفي هذه الاكاديمية وجدت ما ابحث عنه، وجدت التدرب ولعب الكرة ، وفيها اقضي معظم أوقات فراغي” . أما ” أمدو 20 سنة” فأكد أنه يتطلع للاحتراف المحلي بعد سنوات من التدريب ، ويضيف ” كنت من اشبال الحسن كمرا منذ أن كان عمري 12 سنة ، واكتشف هو موهبتي الكروية ، وشجعني على مواصلة التدريب وحببني اكثر في الكرة ، والآن ربما احصل على فرصة للالتحاق بأحد الأندية الموريتانية وانا اطمح لما هو ابعد من ذلك”.

نجاحات فاقت التوقعات

لم يخطر ببال المدرب الحسن كمرا ، أن مشروعه الصغير سيصبح ذات يوم نافذة مشرعة يعبر منها البعض إلى عالم الشهرة والمجد ، لكن ذلك هو ما تحقق بالفعل ، إذ لم تمض سوى سنوات قليلة على انطلاقته حتى بدأت الأندية الموريتانية تأتي للتعاقد مع اللاعبين الذين دربهم وأهلهم ، كما انضم بعضهم أيضا لصفوف المنتخب الوطني الموريتاني الأول ،  ثم تخطى الأمر حدود المحلية ، وذلك بعد أن وصل لاعبون من خريجي أكاديمية الحسن كمرا الى مستوى  الاحتراف العالمي ، من بين هؤلاء اللاعبان الموريتانيان المعروفان  : “الحسن العيد” و”عالي اعبيد”  اللذين انضما لنادي ليفانتي الإسباني وشاركا في الدوري امام ريال مدريد وبرشلونه.

شعر الحسن كمرا بالنجاح وهو يرى تلامذته يشقون طريقهم نحو التألق ، ينافسون  بكل ثقة فوق المستطيل الأخضر كبار اللاعبين  من أمثال  “رونالدو” وميسي” ،  ويؤكد الحسن كمرا  أن ذلك ليس هو النجاح الوحيد الذي اثلج صدره ، بل أن ما اثر فيه حقا هو  رؤيته للأسر الفقيرة لهؤلاء اللاعبين الذين خرجهم واحترفوا محليا ودوليا ، وقد تبدلت ظروفهم المعيشية نحو الأفضل ، ويضيف أن هناك نجاحا آخر لا يقل أهمية لأكاديميته وهو أنها تمكنت من انقاذ المائات من الشباب من الوقوع في براثن المخدرات وعصابات الاجرام وجماعات التطرف والإرهاب ، وذلك حين استقطبتهم وملأت فراغهم بالرياضة ولعب كرة القدم ، وهذه الاكاديمية هي اليوم وجهة لكل مراهق وشاب موريتاني يراوده حلم الاحتراف في أوروبا.  وبفضلها أصبح الحسن كمرا بطلا قوميا في نظر العديد من أبناء وطنه الفقراء، لأنه وفر لهم ما عجزت عنه حكومتهم .

تحديات واجهت أكاديمية الحسن كمرا

لا يخلو أي مشروع مهما كان نوعه من بعض الصعوبات والعقبات التي قد تواجهه خلال مسيرته ، واثناء لقائنا معه سألنا المدرب الحسن كمرا عن نوعية الصعوبات التي واجهته ، فلخصها في النقاط التالية :

1- ضعف الإمكانيات : على الرغم من أن نشاطا من هذا القبيل يتطلب إمكانيات معتبرة للنهوض به ، إلا ذلك لم يتوفر للمدرب الحسن كمرا ، لهذا اعتمد على نفسه لتوفير المتطلبات الأساسية للعبة كمعدات الملعب ، والكرات ، والفانيلات الرياضية.

2- ضغوط الحياة : واجه الحسن كمرا كغيره من الشباب الموريتاني متطلبات الحياة  الصعبة ، فكان مضطرا للعمل لساعات طويلة لتوفير حاجياته الشخصية ومساعدة أسرته ، وقد اثر هذا الواقع على تسيير الاكاديمية بسبب الإرهاق من جهة وضيق الوقت من جهة أخرى.

3- ارتفاع حجم الطلب : تواجه اكاديمية الحسن كمرا اقبالا كبيرا من الشباب الموريتاني بمختلف الاعمار ، وشكلت هذه الوضعية ضغوطا كبيرة على القدرات  الاستيعابية المحدودة للأكاديمية.

4- غياب حوافز كرة القدم في موريتانيا : انعكست مشاكل كرة القدم الموريتانية  سلبا على أكاديمية الحسن كمرا ،، سواء ما يتعلق منها بغياب الدعم الحكومي المقدم للكرة الذي عادة ما يغطي جوانب مهمة مثل رعاية المواهب والاهتمام بالمؤسسات الرياضية ماديا  واعلاميا، او ما يتعلق بضعف الاستثمار في الأندية المحلية .

 ومهما تكن التحديات تبقى اكاديمية الحسن كمرا في موريتانيا وأمثالها في البلدان النامية ، تجربة رائدة ونقطة مضيئة لم تنل حظها من التغطية الإعلامية التي تستحقها ، وذلك بالرغم من أنها عمل تطوعي فريد من نوعه، تمكن من ملء الفراغ الذي أحدثه غياب الفاعلين الرسميين والخواص عن الاستثمار في الرياضة والعناية بها في الأوساط  الشعبية المهمشة .

السيد محمد الحبيب ولد سيد احمد

الملقب السيد ولد محمودي

زر الذهاب إلى الأعلى