وداعا للتهدئة…

كان قرار تهدئة الساحة السياسية قرارا حكيما هدف إلى إرساء تعامل جديد مع معارضة مرهقة. استقبل فخامة الرئيس السيد محمد ولد الشيخ الغزواني رموز المعارضة في القصر الرمادي في غياب وسائل الاعلام، كما يستقبل الوجهاء وكبار معاونيه، وفي ذلك رسالة لم ينتبه لها غالبا…

كنا نفهم في الأغلبية، أن التهدئة أسلوب للتقارب على المستوى الإنساني بين فاعلين سياسيين، بلا عداوات شخصية، ولا تخوين جماعي، على أن يحتفظ كل بموقعه الذي حدده له الشعب الموريتاني إثر انتخابات شارك فيها الجميع؛ الأغلبية تحكم وفقا لبرنامج رئيس الجمهورية، وتنهض المعارضة بدورها السياسي في الرقابة، وتعبئة قواعدها استعدادا للاستحقاقات المقبلة، مستفيدة من تجربة فشلها، ومجتهدة في تقديم برامج انتخابية تقنع بها الموريتانيين لتصبح أغلبية. حسبنا جميعا أن المعارضة ستفهم أن رئيس الجمهورية يوفر لها المناخ المناسب للنهوض بدورها، وتحسين أدائها خدمة لديمقراطيتنا الوليدة…

 لكن المعارضة استثمرت التهدئة لتأخذ إجازة تريدها معوضة! فاختفى زعماؤها من المشهد السياسي إلا في مناسبات تدعوهم لها الأغلبية، ودخل النشطاء الذين كانوا يملؤون الفضاء ضجيجا، في سبات عميق! وضعوا أنفسهم على الصامت دون “اهتزاز” للأحداث الوطنية والدولية! وسوقوا أنهم يفعلون ذلك من أجلنا، والواقع أننا أول المتضررين، ولعلهم يدركون ذلك. فأي نظام ديمقراطي يحتاج، لحسن أدائه، إلى جناحيه؛ الأغلبية والمعارضة، ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ ظهرت “معارضات” بلا خطاب سياسي؛ مجرد وجوه على الفيس، وأصوات في الواتساب لأشخاص بلا حاضنة ولا مشروع جعلوا من السب والشتم مطية لتلويث الفضاء العام!! وفي ذلك وجدت المعارضة ضالتها. فالوجوه والأصوات لن تقدم لوائح انتخابية لكن ضجيجها قد يكون مفيدا إذا تم تدويره في الحملة الانتخابية. تلك الحملة التي بدأ التحضير لها مبكرا. فتم الإلحاح على إجراء “حوار وطني” رفضته الأغلبية، إذ لا مسوغ سياسي له. ومن باب العطف على المعارضة قبلت الأغلبية “التشاور” معها في القضايا الوطنية الكبرى إرساءً لنهج قوامه التسامح والأريحية. وعزز فخامة الرئيس هذا الروح بإعلانه أن التشاور سيكون شاملا وبلا تابوهات… واجتمعت اللجنة التحضيرية واستخدم رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، في خطابه الافتتاحي مفردة تشاور، وتجنب “الحوار” إذ لا حاجة لحزب مهيمن إلى حوار معارضة ضعيفة ومفككة، لكنه عطفا عليها قد يشاورها، فإذا عزم توكل على الله، ثم على رصيده الشعبي الهائل…

 ثم تأتي مفاجأة فاتح نوفمبر حين عقد “أول اجتماع لممثلي أحزاب المعارضة الديمقراطية” حضر الاجتماع “أبرز مسؤولي الأحزاب والحركات…”. وبذلك صدر “البيان رقم واحد”، معلنا “وداعا للتهدئة”.

يظهر ذلك في إعلان أن هذا الاجتماع هو الأول، والتأكيد على أهميته من خلال حضور “أبرز مسؤولي الأحزاب والحركات…” والاجتماع الأول في العادة إعلان عن سلسلة اجتماعات ثانيها الموعود يوم الخميس؛ والخميس في لغة العرب الجيش، وفي الحسانية كائن خفيف الحركة في موطنه يتنقل في مجموعات، فإذا دجن اتخذ للهو الصبيان…

 ينوه البيان إلى أن المجتمعين استعرضوا قضايا ذات صلة “بالحوار الذي اتفقت عليه أحزاب المعارضة الديمقراطية والأغلبية الرئاسية”! لم يتحر البيان الدقة؛ فلم تتفق الأغلبية الرئاسية وأحزاب المعارضة على “الحوار” وإنما على “التشاور” خطاب رئيس حزب الاتحاد.

يلح البيان على مفردة “الحوار”؛ وردت أربع مرات، وتجنب مفردة “التشاور”! فما الذي يفهم من ذلك؟

 ويذهب البيان أبعد من ذلك.. “مواكبة الدولة على اعلي مستوي لمسار الحوار ورزنامته والتنظيم وسبر ورشات الحوار وآليات تنفيذ مخرجاته…” لم يكتف البيان بركاكة الأسلوب، وإنما أربى عليها بغرابة المضمون! فلا علاقة للدولة، بمفهومها القانوني، بتشاور بين أحزاب سياسية، أحرى أن يواكبه “أعلى مستوى فيها” وهو رئيس الجمهورية! أما المخرجات فلا تعدوا كونها توصيات قد يستأنس بها الجهاز التنفيذي بما لا يتعارض مع برنامج رئيس الجمهورية، وتقديرا للصالح العام.

 لا يبشر هذا البيان باستعداد المعارضة لاستثمار التشاور في جو التهدئة من أجل ممارسة سياسية ديمقراطية تقوم على البرامج، والتنافس الشريف في خدمة الوطن، وإنما تستنفر، في بيانها “من أجل رص صفوف قوى المعارضة…” استعدادا للمعركة.

هذه الدعوة إلى التعبئة المبكرة، ورص الصفوف، وتوالي الاجتماعات “في جو ودي طغت عليه الصراحة وروح الرفاقية” يظهر، دون أن يقصد، خوفا متأصلا من طابور خامس طالما خرم إجماعها.. حمى الله حزبنا من “تيابه” في أعماقنا وعلى التخوم…

اسحاق الكنتي

زر الذهاب إلى الأعلى