لا يجوز العبث بذاكرة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية/الولي سيدي هيبه
لا شك أن المدن القديمة، المبنية معالمها التاريخية بالحجارة العشوائية المفتقدة للمعيارية الهندسية العلمية وبالرمل المقوى بالطين والحشائش، تحتاج إلى الترميم المتقن بالمواد الأصلية المحسنة منها إلى المهرجانات المدمرة بالحركة الزائدة والتلوث الصوتي المسبب للشروخ بفعل ذبذبات الموجات الصوتية عن طريق “الكرنفالات” الصاخبة المكررة المحتوى الهزيل والأساليب المبتذلة العديمة القيمة العلمية والفنية والثقافية كما هو الحال منذ النسخة الأولى.
ما زال غائبا عن ذهنية السياسة الثقافية في بلاد التناقضات الكبرى مشغل فكري عملت عليه كل الدول للحفاظ على مدنها القديمة وتجديدها الحضاري وتطوير بيئتها الحاضنة. ولقد كان ذلك على الدوام مدارا لندوات تنعقد وتتعاطى مع قضية التوفيق بين المحافظة على التراث في ظل ما يتهدده راهنا من أخطار، وبين مواكبة معايير ومقتضيات التجديد الحضري الذي تطورت أساليبه وتقنياته حتى باتت اقتصادا يدر على بلدانها مدخولا عاليا.
ولأن المدن التاريخية تختزن قصة وأثر وتراث المنطقة التي تتواجد فيها وتحفظه للأجيال القادمة، فإن لكل مدينة تاريخية أيضا هويتها الخاصة وميزاتها المرتبطة بشكل مباشر بما بلغته الحضارات القديمة فيها من تطور اجتماعي ومعماري وثقافي وفني حتى أكسبها أهمية بالغة تفرض الحفاظ عليها وصيانتها بطريقة تواكب من خلالها التطور الحضري لمحيطها.
لقد أصبحت النظرة إلى المدن التاريخية على أنها تراث مادي جامد متجاوزة في هذا العصر، ولكن أصبح لزاما أن تتطور المدينة التاريخية بالتوازي مع التطور المعماري والاجتماعي والتجديد الحضري الذي يحصل من حولها، لذلك باتت ضرورية وبإلحاح مراجعة كيفية إدارة التراث الثقافي في المدن التاريخية، وكيفية التوفيق بينه وبين التنمية الحضرية، وأيضا أسلوب التعاطي مع التراث الثقافي من الناحية أدوات وتقنيات الحفظ (Conservation) الجديدة لتصبح المدينة التاريخية بالنهاية متناغمة مع التجديد الحضري حيث تمتلك مقومات حضارية ومعمارية مميزة.
كما يجب أن يتم كل ذلك بمراعاة انسجام هذه المدن مع محيطها الخارجي وملازمة الأخذ بتطور تقنيات الصيانة والترميم وإعادة الاعتبار (Entretien, restauration et réhabilitation ) الحديثة لتتطور هذه المدن منسجمة مع محيطها تناغما مع ما يحفظ خصائصها المعمارية والاجتماعية، وهو ما يطرح مسألة تطبيق معايير تضمن إحياءها وفي الآن ذاته تحفظ طابعها الأثري وتراثها الثقافي الذي تتميز به عن غيرها.
وبدل هذه الكرنفالات الصاخبة التي لا يشارك فيها إلا المدعوون “انتقائية” من طرف الوزارة ، تتولى مصاريف سفرهم وإقامتهم، ومن الخارج ووفود تأتي لتظهر قدرة حفظها على تراث بلدانها وتبين عن حرفية عالية عند تسويقه، كما يشاهد ذلك على شاشات التلفزيون “الشعبُ” المحروم دائما من الحضور بسبب بعد المسافات وضعف الإمكانات المالية لتحقيق ذلك “التواجد” المشتهى دفين رغبة عنده للالتحام بتراث أجداده والإدلاء برأي فيه صادق وبناء.
محاور وغيرها يجب أن يتناولها بالبحث والدرس والتحليل الخبراء والمختصون في التراث العالمي والإنساني من البلد ومن منظمات إقليمية ودولية مختلفة، خلال ندوات وفي المؤتمرات الدولية حول“المدن التاريخية والتجديد الحضري” الذي يجب أن تنظم وتعقد أسوة بدول العالم التي تحافظ على مدنها التاريخية وتراثها الذي يميزها عن غيرها وليتم الاحتفاء به داخل الأطر التي تناسبه وبالوسائل والتقنيات التي أصبحت في المتناول.
كما أن هذا الإحتفاء بالمدن القديمة وتسويق تاريخها ومعالمها يمكن أن يتم بطرق أخرى كثيرة أسوة ـ مرة أخرى ـ بتجارب مبتكرة نجحت فيها وبها دول حول العالم فأصابت بحجر عصفورين:
ـ أبقت على آثارها بعيدا عن عبث التجمعات وما تسببه من تلويث وتدمير بالصوت والحركة وهما ملوثين شديدين،
ـ وضعت مجسمات بالحجم الطبيعي والصورة الحقيقية لأهم معالم هذه المدن كما فعلت فرنسا مع “كهف لاسكو في بلدية مونتينياك بالدردون La Grotte de Lascaux de Montignac en Dordogne” العجيبة المسجلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، حين استشعرت الخطر عليها من كثرة الزوار وما تسببوا فيه من تأثير سلبي على الرسوم الجدارية القديمة من حقبة “العصر الحجري القديم Paléolithique supérieur”.
فهل يكون الاتجاه بتوجيه من فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ـ الذي أبدى اهتماما كبيرا بالشأن الثقافي والإعلامي الواهنين من جراء تراكم السياسات الإعلامية والثقافية الهزيلة في الماضي ـ إلى انتشال المدن القديمة من عبثية الحضور ومن إهانة ما تحمله من “تراث” إنساني معماري وعلمي ومجمل المحسوس والمادي، والعمل الجاد على حماية هذا “التراث” من عبث “الكرنفاليين” من شعراء ومغنين ومختصين في “النسخ” و”القص” و”اللصق”، ثم الأمر بصرف المبالغ الطائلة، التي ترصد لهذه اللحظات المضرة بالأثر:
ـ لإرضاء نزوات بعض البشر،
ـ وتكريس العبث بذاكرة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية،
ـ ومضاعفة معاناة المدن القديمة؟