في ظلال الحروف / المختار السالم

لكيْ تُـروِّضَ الصحراء عليكَ أن تنهل ولو من تعرُّق خشبة ملتهبة، وستغرق في طلسميةِ زرقاء ولو كانت دخاناً.. قداسُ السمرِ كان رواقاً في مسرح الحياةِ على تلك التلالِ، التي تزدادُ مواليدُها عاصفةً بعْد أخرى.
لقد ظلت الصحراء بارعة في فنِّ إطفاء الشُّمُوع، كما يقال، وقامت بذلكَ من خلالِ ما كان يستحيل أن يكون ثـيمة لنسْغ الفوضى في عروقِ الحاصدينَ عندما تنضجُ ثمرة الـمَسخِ.. نضوجاً يُـبددُ ما في الإنشادِ من بقية الحلم وحتى آخرِ ليل ناءت كواكبهُ وليمة خُفوتِ ونبيذاً للشبحِ الذي لا يأثمُ.
في ليل التلالِ، وبعد أن سرت أياماً دون أن يقع بصري على أثر كائن حيٍّ، استسلمتُ للريحِ في ظلمات متراكمة، تبددت فرحَتي بآخر خيط أمل تتبعتُهُ.. انقطعت رائحة الدخانِ فلم تعد تصل أنفي، وبفقدانِها خسرت دليلي إلى مأوى يسعفني.. رائحةُ الدخان قد تكون أجملَ بخور يشمُّه التائهون في الصحراءِ المُوحِشَةِ.. الراجح أن الريح غيرت وجهة الدخانِ أو قضت على مصدرهِ، فبالريح تشتعلُ النيرانُ وتنطفئُ أيضاً.. لم يعد من رصيد بحنجرتي لاستظهار النداءاتِ الـمبحوحةِ، وما مَحْظِـيُّ غربة بمُتَــغَرِّب، لأنَّ “الوضع الغُرْبَوِيَّ” يعرفنا بعوالم مُدهشة، يرفع ستاراتٍ كثيفةً كانت مقصلة إدراكٍ لما لا يُحضرُ ولا يُستحضر إلا في تلك اللحظاتِ.
لو كان معي “ديبه” الآن لحدثتهُ كيفَ نادمتُ “يومَ الثنيةِ” جُرْحي بعد أن تشبعتْ خُطَى الهاربينَ من عجينةِ الفرارِ، ووثقت الزغاريدُ “القلقِ المُخَـنْــدَمَ”، وفي القومِ من استخلبَ الظنُّ سباخ قريْـنَـتـِه مُتعففاً عن عقيقةِ الملح، وأما من شطَّحَ بطيفٍ يتنصّلُ هبةً لوحلِ الاغترابِ فثمَّةَ أنشودة لترف النزيفِ الذي يفيضُ تَـرنّماتٍ، ولا وجود لغائية قولٍ إذا مَدَحَ الغَاوي مُسُوحَ من أدْمَنَ فاكهةَ التعـثُّـر والمَمْشى.
لأن الإنسان أحسَّ بنقمة الريح على أثره، وشهيتها إلى محو خطاه، عمد إلى النقش على الحجارة، فرسم أنثاه وحصانَه وماشيته والعصافير التي تطربه، ومن الرسمِ اكتشف الكتابة فكانت له تفاحةَ خُلد.
لكن الريح ما زالت تُلاحقه وتَـعصر قطرات خطاه في آنية الفناءِ.
لقد ربحتُ الرهان هذه المرَّة، فيمكن للريح أن تَـتكسر على الريح ولا نحسَّ للجرح ألماً، حين تـثملُ جراحنا حتى تترنح من السُّكْرِ، وتعربد وشماً على جلودنا مع ما في القلب من وشْيِ الهموم.. نكون قد انتصرنا.
غالبا ما يتحدث الروائيون عن انتصارِ الجارح وينسون بطولاتِ الجُرح. في البيداءِ، وبالفطرةِ، هناك فارقٌ بسيطٌ بينَ “أطوار الفعلِ”، بفضلِ قلامة من “عبء التنصلِ”.. على كلِّ حالٍ راهنت على الأملِ، وأخذتُ “أتردَّم” حتى أجَنِّبَ أغلبَ جِسْمي لسعاتِ الريح، التي تسارع في نسْفِ ما أتردَّمُ بهِ في صورة مُشَبَّعة بالسُّرياليةِ.. ثم فجأة أمطرتْ؟
أتذكر ذلك المشهدَ وكأنهُ الآن، وأقولُ إن تراثاً كاملاً من ترويض الموريتانيين للصَّحراءِ لم يكتبْ وإنما “يتردم” ولا أحد ينسفُ عنه في انتظار مؤرخ شجاع.


تنشر كل ثلاثاء في صحيفة “الشعب”

زر الذهاب إلى الأعلى