بابا: كتيبة رجال ترحل بهدوء!

يَقولونَ حِصنٌ ثُمَّ تَأبى نُفوسُهُم.. وَكَيفَ بِحِصنٍ وَالجِبالُ جُنوحُ

وَلَم تَلفِظِ المَوتى القُبورُ وَلَم تَزَل.. نُجومُ السَماءِ وَالأَديمُ صَحيحُ

..

بابا يطوي سجادته ويلحق بركب الخالدين، بعد أن أشرف على آخر كرسي للقرآن الكريم تقيمه جامعة شنقيط، التي سخر لها سنوات عمره الأخيرة، لتكون معلما آخر مما ينفع الناس ويمكث في الأرض من أياديه البيض الباقية.

استمع الشيخ الوقور لقراءات القارئين، ولمدارسات الدارسين، ولم يستعجل منهم أحدا، وقدم ملاحظاته، وابتسم لهم جميعا، وآب إلى بيته.

الرجل الذي احتشدت موريتانيا البارحة لوداعه، كان كتيبة رجال في رجل واحد، كما قال هو ذات يوم عن ابنه جمال ابن الحسن.

الحقيقة، أن الشعر والنثر في وداع بابا يبقى قاصرا عاجزا ضعيفا.

بأي لغة ومن أي منجم حرف يمكن أن يُكتَب عنه تأبين لائق به، يتسامى إلى جلاله.

عودتُ حرفي أن يكون منصفا وأن يودع عظماء الراحلين وداعا يليق بهم، لكنه، والله يعلم، يقف عاجزا، فاللغة هراء وسفساف حينما تزف إلى مقام بابا.

الرجل كان عالما، بحاثة، مترجما، شاعرا، إداريا، جامعا أشتات ما يتفرق في آلاف الرجال.

تكفي مطالعة رحلته مع الحياة التي كتبها بتواضع لا يخفى لأخذ فكرة بسيطة أنه كان نادرة من نوادر الزمان.

لم يضيع بابا لحظة من لحظات حياته، حتى وهو سجين في أعماق الصحراء، كان يتابع دروسه ويؤلف الجديد المفيد.

أخذ من كل فن بنصيب الأسد، إن أردته شيخا صوفيا على سنن أبويه اباه وباب ستلفيه محبا قد توغل الصفاء إلى شغاف شغاف قلبه، ولك في خاتمة رحلته مع الحياة الدليل الكافي على ذلك إن أردت.

ثم هو الشاب الذي تتعلق نفسه برحلة الحج، في حين يشغل هم أترابه غير ذلك.

وإن أردته رجلا عصاميا فلن تعدم الأدلة القاطعة على ذلك، حيث أتقن اللغة الفرنسية في النعمة أقصى شرق موريتانيا مزاملا تلاميذه الذين يدرسهم اللغة العربية، وملك ناصية الإنجليزية وهو في سجن بومديد.

وكان اول موريتاني مدني يدلف إلى عالم الطيران، ويسير طائرته إلى ذات النبوغ مستعيضا بها عن جمله الأثير.

لو استرسلت لما كفاني كتاب من ألف صفحة عن الرجل، الذي كانت كتبه جزءا من وعيي.

جلت معه في مدارس الفقه المالكي في الغرب الإسلامي وموريتانيا، وفي اختياراته الرائقة من شعر شعراء موريتانيا، ومدارس النحو شرقا وغربا، واختياراته من أشعار الفرنسيين… إلخ

في مثل بابا لا يعزى أهل النباغية، ولا قبيله الماجد، ولا موريتانيا، بل يعزى المسلمون جميعا.

أعزي نفسي التي صدمها هذا الخبر، وأعزي كل تلاميذ بابا وما أكثرهم، وأعزي والدنا فخر القطر الشيخ اباه حفظه الله ورعاه، وأعزي بيت آل محمد فال بن باب ومن تعلق بهم.

وما مات من خلف الأيادي الضخام: مؤسسات تنشر العلم والهدى والنور، ومؤلفات باقية على الجديدين، وترجمة نقية لمعاني كتاب الله إلى لغة قوم لا يفهمون العربية، وتلاميذ قد رباهم وعلمهم، وأبناء بررة سيظلون سائرين على دربه النبيل: علما وعملا وأخلاقا ومروءة..

إنا لله وإنا إليه راجعون.

محمد ناجي أحمدو

زر الذهاب إلى الأعلى