الإعلام ما لهُ وما عليه/ الدكتور. أنور ساطع أصفري

 تقع على الإعلام الوطني ومؤسساته مسؤوليات كبيرة من أجل حماية تراثنا الحضاري وهويتنا الوطنية .

فالتراث يعني كل مفهوم يتعلّق بتاريخ الإنسان في تجارب ماضيه وعيشه في حاضره واطلالته على مستقبله .

والتراث الحضاري والثقافي هو ممتلكات وكنوز تركها لنا الأوائل ، والتراث هو السند المادي وغير المادي للأمم والشعوب .

وفقدان التراث يعني فقدان الذاكرة الشاملة للأمّة ، والشعب والوطن .

ولأهمية هذا الجانب نرى أن دول الغرب المعتدية تفكّر أولاً بتأمين الجهات الإعلامية الموالية ، وتدمير التراث الثقافي والحضاري والتاريخي ، من خلال تدمير المواقع والآثار التاريخية ، وتدمير الرموز الروحية ، وسرقة المتاحف والمخطوطات والمكتبات وإتلافها .

إنها هويتنا التي تحمل شخصيتنا ، والتي تجسّدت عبر تاريخ طويلٍ يمتد لآلاف السنين في عمق التاريخ . والفاظ على هويتنا هو مسؤولية الجميع ، ومؤسساتنا الإعلامية ، وحرص الأدباء والكتّاب والمفكرين .

ففي عصرنا الحالي يُعتبر الإعلام سلاحاً قوياً جداً ، وأحياناً يفوق فعله ما تقوم به الآلة العسكرية الفتّاكة .

لقد دخلت وبقوة وسائل الإعلام والإتصال كقوةٍ جديدةٍ من القوى الأساسية للدول ، تماماً مثل القوة العسكرية أو الإقتصادية ، والحرب الإعلامية ليست حديثة ، فلقد نوّه إليها الأمريكان في سبعينات القرن الماضي ، وقالوا إن سبب خسارتهم في فييتنام يعود إلى سور إستخدامهم لوسائل الإعلام ، وقالوا لا يمكنهم أن يكسبوا أي حربٍ مستقبلية دون أن يخوضوا حرباً إعلامية أولاً .

 لذلك بعد خروجها وإنهزامها في فييتنام عام 1975 ، أدركت أمريكا أهمية الإعلام ، وأن إعلام العدو كان متفوّقاً عليها ، لذلك أول ما قامت به أمريكا بعد ذلك هو تأسيس الشبكة الإعلامية الأمريكية CNN ، التي رأت النور عام 1980. .

فالمعلومات الإخبارية الفورية والتي يتم الحصول عليها من وسائل الإعلام تُبيّن مدى مخاطر الإعلام الموجّه وفق سياسة القائمين عليه ، وتأثيراته السلبية إن على مستوى الأفراد والشعوب والدول .

وأحياناً كثيرة تقوم هذه الأخبار الكاذبة المُضللّة على تعبئة الرأي العام نحو آفاقٍ سلبية عاريةٍ تماماً عن الموضوعية أو الإنصاف .

وحينما نتعمّق في موضوع الأخبار الكاذبة والإعلام المُضلّل نجد أن هناك غايات سياسية أو إقتصادية وثقافية وراءها ، وقد تكون بعيدة المدى ، لإعادة رسم خارطة وعي المواطن بشكلٍ يؤثّر على سلوكه وتوجّهاته ، ومن ثُمّ يصبح فريسةً سهلة في يد ذلك الإعلام الظلامي ، ونجد أيضاً إحتمال أن تكون هناك مافيات مأجورة ، وأجهزة مخابرات دول بكاملها ، بهدف تمرير مصالحها ، عن طريق التضليل الإعلامي ، وحشد الرأي العام حيال قضية ما ، أو قضايا بعينها دون سواها ، إذاً هناك نوايا مُسبقة ، ومُبيّته للتلاعب بوعي الجمهور وإبعاده عن الحقيقة .

لذلك علينا التأكّد من صدقية الجهات التي تنشر الأخبار ، وعلينا التعرّف على من نشر هذه المادة أو تلك وأين ومصدرها ، ولماذا تمّ النشر في هذا التوقيت ، وما هي الأحداث التي ترتبط مع هذه المادة ، وأحياناً كثيرة تقوم هذه الجهات بنشر صور وفيديوهات مُزيّفة ومُفبركة ، تمرّ على بسطاء البشر ويصدقونها ، وخاصّة أنها تنتقل بسرعة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ، وغالباً تكون هذه الأخبار مستفزّة للمشاعر ، وسرعان ما يبدأ الهلع بين الناس ، آخذين بعين الإعتبار أن الأخبار  التي يتم ترويجها هي أخبار غير مهنية ، وهدفها السعي لزرع الشك والهلع والخوف والبلبلة وإثارة الرأي العام والغضب الجماهيري ، وقد يتحوّل إلى فتنة ، وإلى عنفٍ وفوضى وفلتان الأمن العام .

وبكل تأكيد أن الشباب هم أول المستهدفين من الإعلام الرخيص أو من التضليل الإعلامي ، لأنهم الفئة العمرية الأكثر في الميدان أو في المجتمعات ، والأكثر تأثّراً من هكذا إعلام ظلامي .

حتّى هذه الأخبار المنحدرة  وصلت إلى مجالٍ  بعيد عن السياسة ، لكنها خطيرة ، خاصّة حينما تتحدّث هذه الأخبار عن الأمور الصحيّة ، والغذائية ، ونوعية المأكولات ، وإنتشار المواد الغذائية المُسرطنة وغيرها ، ومعظمها أخبار مُلفّقة ورائجة ويقع ضحيتها الجمهور البسيط أو بسطاء الناس .

وعلينا أن نُدرك أن الكثير من الحروب بدأت وتبدأ بتحريضٍ إعلامي ، وفق ما يُخطط له تجّار السلاح والحروب .

إنّ الإعلام المسؤول بكلِ تأكيد يتعلّق بالمهنية ، وبالمسؤولية ، وإحلال الاستقرار والسلام ، ليس في الدولة الواحدة ، بل بين الدول والشعوب بشكلٍ عام ، وإحترام الإنسان وثقافته وثقافة الإختلاف .

الإعلام المسؤول يستطيع أن يتجاوز الكثير من الاختلافات الإيديولوجية بين الشعوب والدول من خلال القواسم المشتركة ، والصفات الثقافية والإنسانية المشتركة ، والتعاون بهدف الاستقرار والسلام .

وبنفس الوقت يستطيع الإعلام العبثي تأجيج المواقف والأزمات في العالم وبين الشعوب ، وإثارة كافة أشكال الغرائز بهدف إستنزاف الدول وشعوبها بأجندات النزاعات الطائفية والمذهبية والإثنية ، والعمل على تأجيج الحروب الأهلية هنا وهناك ، التي قد لا تنتهي حتّى تقضي على كل المتاريس التي تقف في وجه ذلك التيار العبثي الّلا مسؤول ، الذي يهدف إلى تشويه الإعلام المهني النقي ، وتنشيط محاور الفتن وتفتيت المجتمعات ، والاستهتار بقيم الحدث أو الخبر ، والاستخفاف بالرموز السيادية للدول ، ومحاولة العبث بمكوّناتها الوطنية والإجتماعية من خلال دسّ الفتن وإثارة العواطف ، أو العبث بعواطف الآخرين وتشجيع ردّات الفعل والإنفعال .

الإعلام السلبي العبثي لديه قدرة تدميرية مرعبة للمجتمعات ، ويُعتبر سلاحاً فتّاكاً في الحروب الحديثة .

أمّا الإعلام المسؤول والملتزم فهو وجه إيجابي يُستخدم لرقي الانسانية وتوسيع نطاق الحرية والتنمية ، وتوسيع مساحة  الإلفة والوعي لدى المجتمع ، وتعزيز روح التسامح والتعايش بين كلّ مكوّنات المجتمع .

فبدونِ إعلامٍ حر ومستقل عن جميع القيود والتأثير والتحكّم ، لا تزدهر الكلمة ولا المواقف ولا الشعوب .

لذلك لا بُدّ من وضع التشريعات والقوانين والضوابط لحماية الإعلام من السلطات الأخرى ، ومن كلّ أشكال التأثير والإملاء المستبد ، حتّى يتمكن الإعلاميون من الولوج إلى المعلومة الصحيحة من مصادرها ، وعبر إطّلاعهم على ما له صلة بحقوق المتلقي والرأي العام ، من معلومات تدخل في نطاق الحق في المعرفة الذي تكفله الدساتير الديمقراطية كما يتوجّب ، وتحسين شروط الحياة الكريمة للإعلاميين ، شأنهم تماماً كشأن رجال القضاء لأهمية الدور الذي يقومون به سلباً أو إيجاباً في المجتمعات .

إذاً لا بُدّ من التقيّد بالمهنية وإستحضار المسؤولية ، من قبل رجال الإعلام ، حيث أن هناك أدبيات وأخلاق في هكذا ممارسة ، وتوخّي الصدق والحياد في نشر أي خبر ، وتبنّي سياسة الإعتذار الجريء ، وتعزيز روح التسامح والمحبة ، وتجنّب تأجيج النزاعات أو التحريض ، أو الإساءة أو التشهير ، وصيانة وإحترام سيادة الدول وتجنّب المسّ بوحدتها الوطنية .

لذلك نقول أن الإعلام بكلِ أشكاله المقروء والمسموع والمرئي ، وكذلك ما يُطلق عليه الإعلام البديل هو سلاحٌ ممتاز في بناء المجتمعات وتماسكها ورقيّها ، وفي تنمية الديمقراطية والحرية في البلاد ، هذا فيما إذا سلك السلوك النبيل والملتزم .

وبنفس الوقت إن ذلك الإعلام هو من أكثر الأسلحة الحديثة إيذاءً وتحطيماً للشعوب ، ونسفاً للسلم العالمي ، لأنّه يُعبّىء الأجيال والنفوس بالكراهية والحقد .

الإعلام ليس من السهل إختصاره ، فهو موضوع شائكٌ ومعقّد ، مترافقٌ بالاتهامات والتبرير . 

فنحن نعاني فعلاً من مجتمعٍ معزول ، فالبطالة في بلادنا حدّث ولا حرج ، دور المرأة متخلفٌ وهذا لا يحتاج إلى براهين ، وهناك فقر ، وهناك تحدٍ ، وهناك هرولة يومية وراء لقمة العيش ، هناك إقصاء لرأي الآخر ، هناك تبعيّات لا تنتهي ، وإعلامنا لا يُدرك بأبجديته هذه الأمور ،  مجمل هذه الأمور وسواها كثير ، نستطيع أن نقول من خلالها أن هكذا مجتمع يعيش بأُمّية ، ليست أُمّية القراءة والكتابة فحسب ، بل أُمّية التعامل مع العصر ، ومواكبة الركب الحضاري للأُمم .

نعم نحن متميّزون بحجم إعلامنا ، فلدينا حوالي 1500 فضائية ، ولدينا حوالي 500 من الصحف والمجلات ، كلها ألوانها جميلة ، و معظمها مضمونها فاقع وفارغ ، وآخذين بعين الإعتبار أن هناك ميزانيات ضخمه بمليارات الدولارات همّها الأساسي أن تقوم بتزييف العقل العربي ، وتغييبه ، وبتر الإبداع بأشكاله . ويبدو الإعلام بأنه خادماً لمصادر النفوذ ولو كان على حساب أبناء الشعب والفقراء والكادين ، ويبدو وكأنّه سيفاً على رقاب الناس وليس بأيديهم .

وعلى المؤسسات الإعلامية أن تبتعد عن رسم نفسها بشكلٍ غير مألوفٍ وقبيح ، حيث ليس هناك ضوابط مهنية أو أخلاقية أو إنسانية أو حتّى نزاهة ونبل وطني .

نعم وبكل تأكيد إن الإعلام يلعب دوراً مهماً جداً في حياة الأمم والشعوب ، ليس فقط في نقل الأحداث والأخبار أولاً بأول ، وإنما في صناعة وصياغة وتحديد توجّهات الرأي العام .

نحن اليوم بأمسِ الحاجة إلى تكاتف الكتّاب والمفكرين والمثقفين في كلِ مكان للمواجهة المكشوفة مع الإعلام الظلامي ومشغّلي الفتن ، ووضع إستراتيجية إعلامية تخدم هويتنا الوطنية والقومية ، وإستقطاب كل القوى الوطنية الفاعلة وأصحاب الخبرة الإعلامية من أجل مواجهة التقاعس الإعلامي الذي يتمدّد على إمتداد الساحة المترامية الأطراف .

فنحن إذا أردنا مستقبلاً أفضل إعلامياً وثقافياً وسياسياً ، لا بُدّ من مراجعة كلّ خطاباتنا الإعلامية والتربوية والدينية والثقافية والسياسية ، وإستبدالها بخطابات حضارية تتمتّع بماهيّة الحسّ والولاء والإنتماء الأخلاقي والإنساني والوطني والقومي .

زر الذهاب إلى الأعلى