الأديب والإداري محمد فال ولد عبد اللطيف: معايير قيم المروءة في المجتمع ينبغي أن تراجع (مقابلة)…

الموريتاني : الأستاذ والإداري محمدفال ولد عبد اللطيف شخصية ثرية وذات أبعاد متعددة: تجد فيه موسعية الفتى المحظري النابه، وطرافة الأديب المخضرم، ودقة الإداري البارع، ومنهجية الخبير والمصلح الاجتماعي الذي واكب لتحولات المجتمع الموريتاني في العقود الأخيرة..  و يكشف هذا الحوار الخاص عن جوانب من رؤيته للثقافة والفكر، ويسلط الضوء على زاويا من هذه الشخصية الموسوعية وعن مشروعها الثقافي وإسهاماتها في مختلف جوانب المعرفة..  فإلى المقابلة: 

موقع الفكر: لكم طابع خاص في الكتابة النثرية وعززتم حضور الأدب النثري من خلال مقالاتكم ومؤلفاتكم، نود منكم تعليقا حول النثر ومدى حضوره في الثقافة الموريتانية، حيث أن هناك من يعتبر حضور النثر  ضامرا أو غير موجود خلافا للشعر الذي طغى في هذه البلاد؟

محمد فال ولد عبد اللطيف: شكرا، يظهر لي أن الحكم على النثر الموريتاني أنه ضامر، إنما بالنسبة إلى الشعر، يوجد النثر  والنثر الفني معروف عند الوالد ولد خالنا عنده نثر جيد لا يقل روعة عن الفتح بن خاقان في عقود العقيان، كما أن هناك أيضا مقامات عبدالله الخلالي مقامات حسنة، وثمة الرسائل (ما يعرف يلبروات) يعرض فيها الطلاب عضلاتهم ويوظفون كثيرا من معلوماتهم. وطبعا كان هناك مؤلفون معروفون يمتلكون زمام النثر مثلا الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا  ووالده الشيخ سيديا الكبير هؤلاء كانوا يمتلكون زمام النثر،  إلا أن هذا كله لم يتفطن  له البعض بسبب طغيان الشعر تبارك الله كما وكيفا.

وبالنسبة للنثر أيضا أرى أنه ربما يكون صعبا، أصعب من الشعر ربما ندخل في تفاصيل ذلك لاحقا.

موقع الفكر:  ذكرتم أن النثر كان حاضرا بقوة وأنه فقط ضامر ضمورا نسبيا إذا قيس بالشعر.

نود منكم تقديم نماذج من هذا الأدب، النثر خاصة ” ابروات التلاميذ”؛ رسالة الطلبة؟

واستحضرهنا  نماذج من هذه لبراوت أنا لا أعرف هل هي لائقة (طايبة) لكني سأعرضها أعرف من يكتب على الختمة:  خير العطية ما كانت معجلة  وأكرم الناس من يعطي على عجل

حتى بعض الأدب غير الفصيح:  

عراد ما طات الختم   الله   يعري      متكاه

وأتعود   سبته تخم.   فخلاص كلت معطاه

استسمح إذا كان المقام لا يسمح بهذا.

محمد فال ولد عبد اللطيف: لا استحضرفي الوقت الحالي نماذج من “أبراوات التلاميد”  و أعرف أن منها ما يكتبوه، يرسلوه للنساء لكي يساعدوهم في بنيان خيمة الطلاب ومنه ما يكون هدفه الحصول على بعض المزايا المادية ونحوها.

والجوهري في الموضوع  كونه ميدانا يبرهن فيه الطلبة على معرفتهم للنثر.. و من النماذج النثرية المشهورة مقامات عبد الله الخلالي، التي ينحو فيها منحى مقامات الحريري وكذا مقامات المختار ولد حامد، فهي مقامات رائعة تستحق الدراسة، وقد  قام الحسين بدراسة لابأس بها لكنها غير كافية، و يستطيع الدارس أن يكشف كثيرا من أوجه العبقرية فيها والإبداع لم يتعرض له الحسين الذي قام بمجهود يذكر ويشكر كما يقال.

ثمة أيضا قضية كرامات الزوايا  لمحمد بن والد،  قام الدكتور سيد أحمد ولد الأمير بدراسة عليها لابأس بها، هذا ما عندي في هذا الجانب.

طبعا هناك القصص التي أنجزت مؤخراً جميلة لكن نثريتها من نوع خاص فيها الإبداع لكنها ليست مثل النثر الفني بدرجة كبيرة فهي نوع من السرد بشكل سلس لبق نقول نحن البيضان “أملس”.

موقع الفكر: ماذا عن موضوع  الفيش بين كسكس والعيش، كيف تلخصون المفايشة بينهما؟

محمد فال ولد عبد اللطيف:  الفيش عندها أصل فصيح في العربية ويقصد بها المباهاة، ويقول لها العرب أيضا فياش وعندها أيضا معنى آخر لكنه ليس هو المقصود .

و رسالة الفيش حدا بي إليها العبث في تلك الفترة عندما كنت حاكما في مقاطعة مقامة، في فصل الخريف، وصادف أن العمل غير كثير،  والإسعاف غير موجود والناس هادئة ومنضبطة، ففضلت أن أستغل فراغي وأن أقوم برسالة فكتبت تلك الرسالة التي تدخل في إطار أدب المناظرات التي يحفل بها الأدب العربي مثل المناظرة بين السيف والقلم والمناظرة بين الليل والنهار، والصيف والخريف..

ومن قرأها ربما لاحظ  أنني قصدت أن أوظف فيها بعض المفاهيم والمعطيات المعروفة في الفنون مثل فنون الأصول والنحو والفقه وغيره، الفنون الجدية وظّفتها في الموضوع الهزلي،  ربما يكون يُسِرُّ حَسْواً في ارتِغاء

وكل ذلك راجع لرغبتي الخاصة في تعليم المجتمع وتدريسه فأحببت أن أدرس المجتمع بعضا من تلك الفنون دون أن يشعر.

وهذا هو المقصود من ذلك.

أما جانبها “السيسولوجي” أيضا فموجود لأن بعض القراء فهم أن العيش يرمز لوسط اجتماعي معين، والكسكس يرمز لوسط آخر من مجتمع معين هذا لم أكن أقصده أولا لكني لا أتبرأ منه، ويبدو أنه رواية واردة وجميلة ومن قرأ الرسالة في آخرها يعرف أنه كان هناك محضر تصالح اعترفوا فيها أن العيش إنما هو الكسكس، والكسكس إنما هو العيش، إن هي إلا حبة طحنت فبرمت فمنهم من كسكسها ومنهم عجنها.

 من قرأ المحضر الأخير يدرك  أن ثمة تصالح.

 هذا أيضا لم يعد موجودا؛ فموريتانيا أصبحت قرية واحدة بكلامها وعباراتها لم يعد ثمة شيء  خاص بأهل العيش و لا بغيرهم وطبعا هما طعامان ترضاهما الأنفس التي قلنا فيها:

ألا إنما العيش   والكسكس     طعامان ترضاهما الأنفس

فلا العيش أنفس من كسكس   لديهم ولا كسكس أنفس

فقط هذا ما عندي.

موقع الفكر: هل أخذت النكتة والطرفة موقعها في النثر الموريتاني على غرار ما تحقق في الشعر على يد أمحمد ولد أحمديوره مؤسس مدرسة الزريكه؟.

محمد فال ولد عبد اللطيف: ما أرى أن النكتة حاضرة  في النثر بالدرجة التي وقعت في الشعر، فلا أكاد أتذكر شيئا فيه النكتة إلا ما كان في بعض مقامات الأديب المختار بن حامد ون،  التي لا تخلو من النكت والتلميحات، وأما المواضيع الأخرى فغالبها جدي، و قد يوجد في المراسلات الخصوصية بين الأصدقاء أشياء ربما يكون فيها حضور النكتة الموريتانية من باب ملاطفة الأصحاب للأصحاب ومعاتبتهم لهم ومداعبهم فذلك موجود، وهذا ما أتذكر أيضا بالنسبة للمقالات الصادرة في السنوات الأخيرة فهي لا تخلو منه.

وقد حاولت أن لا يخلوا ما أكتب من نهكة  فكاهية، فالمقالات التي كنت أمد بها جريدة الشعب، حاولت أن تتضمن شيئا مما يطرب أو يضحك والكثير من الكتاب مثلي في ذلك، فعلى سبيل التمثيل محمد ولد تتا كان يفعل،  وغيرهم لكن ليست ثمة كتابات متخصصة، فأدب النكهة غير موجود في النثر.

موقع الفكر: هل يمكن أن نعد النقد الفكاهي أحد الأنواع النقدية ذات التأثير في حياة المجتمع الموريتاني الحديث؟

محمد فال ولد عبد اللطيف:  لا شك أن له تأثيرا قويا وليس ذلك  خاصا بالمجتمع الحديث،  فجميع المجتمعات يلعب  النقد الفكاهي فيها دورا مهما، وهذا هو معنى الكوميديا التي كانت موجودة في البلاد الأوروبية ويراد منها إصلاح الأخلاق عن طريق أخرى غير الوعظ الاجتماعي المباشر، وكان عندنا في الأدب الموريتاني الكثير منه، هناك ظرفاء معروفين يقال لهم الظرفاء فكاهيين عندهم مواقف وعندهم قصص ظاهرها الفكاهة وتبطن خلفها النقد الاجتماعي وهذا هو سبب نظم ولد الشيخ سيديا  لهزل بني ديمان وذكر منه عينات وقال إن قصب السبق فيه إنه مسلم لباب فال، وذكرنماذج أخرى.

وسبق  أن قدمت محاضرة طويلة في مجلس اتحاد الكتاب الموريتانيين،  رغم أنهم تعهدوا بطبعها فلم يطبعوها حتى الآن،  تعرضت فيها لشيء من هذه الإشكالية والنماذج والنمطية، قلت إن الفكاهة ذات مشارب، منها مشرب عالم ومشرب شعبي ومشرب دون ذلك ومشرب مشترك، ومعناه أن النقد عنده تأثير لا في العصر الحديث فحسب، بل في جميع العصور.

موقع الفكر:  لديكم نظرية حول ما تسمونه تبدل القيم بالانتقال من البادية إلى المدينة واتخاذ القيم انزياحا في مدلولاتها، حبذا لو شرحتم لنا هذا؟

محمد فال ولد عبد اللطيف: صحيح،  لأن القيم التي كانت تقوم عليها المروءة ينبغي أن تراجع، حيث كان يزور الضيف مرة في السنة أو مرتين فيكرم إكراما يتناسب مع مستواه ويأتي المستجدي فيصدر بالذي يريد، ولكنه كان يأتي مرة أ ومرتين في العام، اليوم ونظرا لسهولة التنقل أصبح  بإمكانه أن يأتي في كل يوم وكل شهر ،فينبغي أن تتبدل معايير المروءة حسب المعطيات الجديدة، وهذا يقترب مما قال عمر بن عبدالعزيز أنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من “الفجور”.

وليس هذا خاصا بالمروءة حتى حق الجار، حق الجار في المدن “المتعقدة”  ينبغي أن ينظر فيه بتوأدة وحذر لأنك لو حملت شخصا لا تدري  من هو لعله أن يكون مطاردا من طرف العدالة، تحمله أنت لأنه جارك فيظهر أنك أدخلت نفسك في ورطة أنت في غنى عنها.. ومثل ذلك أن تضع قدرا من الماء البارد في الشارع ليشرب منها المحتاجون هذا خطير، لأنه مع غياب الرقيب وانتشار الجريمة يمكن ببساطة أن يدس بها السم فتصبح أنت مسؤولا عن كل ذلك، فهذا الصنيع الجميل إنما يتأتى في القرى المحددة التي يعرف فيها الأهل والجيران بعضهم بعضا.

إذا، الخلاصة  أنه ينبغي أن تراجع المعايير والقيم التي كانت سائدة على ضوء المعطيات الجديدة.

وما يحدث في المدينة لا ينسحب على قيم البادية حتى في الفتاوى وحتى في القضاء ينبغي أن تؤخذ الحقائق والواقع المعيشي بعين الاعتبار.

موقع الفكر: ما كتبتموه عن العلك علق بشأنه أحدهم ذات مرة في موقع معين حيث كتب: العلك كاع أثر بأخبار، فهل  تتحفنا بطرف من هذه الأخبار؟

محمد فال ولد عبد اللطيف: العلك فعلا له أخبار ، وقد تطرقت في رسالة سميتها: “جيدة السبك في أخبار العلك”  تحدثت فيها عن العلك من الناحية التاريخية والناحية الاقتصادية ومن الناحية الأدبية ومن الناحية الفقهية ، تطرقت لكون العلك كان هو المادة التي تتصارع عليّها القوى الاستعمارية وتحدد إلى حد بعيد ميزان القوى داخل الإمارات التي كانت تحكم البلاد، فكانوا يضغطون بها على المستعمر ،وكان المستعمر يتدخل بواسطتها في الشؤون الداخلية.

وتحدثت عنها من الناحية الفقهية من حيث ربوية العلك وعدمها، وما كان من الأخذ والرد بين مختلف الآراء الفقهية، وتحدثت عنها من الناحية الأدبية حيث  موسم بيع العلك يشبه في بعجه الثقافي المربد  تكثر فيه المساجلات ولقاح الأفكار ، والمساجلات عند المرفأ الذي كان على النهر .

وتحدثت فيه عن بعض المسلكيات وعن ما كان يعرف بالصرف، وهو نوع من التجارة، وعن كيفية وزن العلك وما يتعلق بذلك.

وهذا كله إن “نزلت فيه البركة”  يمكن أن يكون أخبارا.

موقع الفكر: كيف هو حديثكم الآن عن “تكوس” في ظل نسبة البطالة المرتفعة في شباب البلد، طبعا لديكم الكتاب الذي ألفتموه عن ظاهرة “الكوس”؟

محمد فال ولد عبد اللطيف:  ظاهرة الكوس رسالة سميتها رسالة الكوس، وهي في الحقيقة دليل علمي لمن فرضت عليه الأحوال أن يمارس مهنة “الكوس”، وعندما أقول مهنة فأنا أعي ما أقول كمهنة الكدية التي كانت معروفة زمن العباسيين التي يعزونها إلى رجل كان يسمى ساسان، ولاشك أنكم رأيتموها وأطلعتم عليها في مقامات الخمسين على ما أعتقد من مقامات الحريري حيث يذكرون  وصية أوصى بها أهل حرفة الكدية..

وأرى أن رسالة الكوس مازالت سارية المفعول كما يقال، ومعناه أن تلك المعطيات التي تضمنتها ما زالت سارية و يمكن الاعتماد عليها، وهي في الحقيقة نصائح للكائس، نصائح ذات بعد اجتماعي وبعد ربما فلسفي وخلفيتها الأصلية تقوم على بعدين:

  • بعد تنفيسي على الكائس “توسعة” الأمور عليه فإنه ليس بدعا فيما يفعل وأن حالة الضرورة تبيح أكثر من ذلك.
  • والبعد الثاني هو عرض “اسكتشات”  من الحياة الموريتانية ولاسيما في هذ العصر، تعرضت فيها لسبر أغوار بعض الشخصيات “البطارين”، وبعض الحرف المهمة والحالة العامة كما يقال و الجو العام في ثمانينات القرن الماضي  في هذه البلاد.

موقع الفكر:  ما أبرز فتاوى الشياطين حيث أنكم من خلال هذا العنوان قدمتم للقراء كتابا هادفا ممتعا:

لم ينح ناح نحوه  قبله       لو  أنه الفراء والأبدي؟

محمد فال ولد عبد اللطيف:  في الحقيقة لا أدري أي الفتاوي أبرز لأن “الأبرزية”  نسبية فهناك شيء يتعلق بالنزاعات العقارية قد يكون أبرز في بعض المناطق من بعض، وهناك ما يتعلق بتكيف البداة مع الحياة العصرية، قد يكون أبرز وهناك فتاوى تتعلق بالمستجدات العصرية وهذه أيضا عندها أبرزية في مكان معين، ولا أستطيع أن أجزم بموضع “الأبرزية”  أو أن هناك  شيئا أبرز من شيء، ومثال ذلك  من يتعرض لنوازل عبد القادر الفاسي ويجزم أو يفضل بعضها على بعض، أونوازل الشيخ محنض بابه أو نوازل ابن الأعمش أن بعضها أبرز على بعض، فكل هذا مفيد وبارز وليس منه شيء إلا وهو مهم..

عن موقع الفكر

زر الذهاب إلى الأعلى