الاستعمار الاستيطاني و المستقبل المخُوف / محمد فاضل سيدى هيبه
ليس الغرض من هذه المعالجة إثارة أية نعرات عنصرية و ليس رغبة فى الخروج عن “الإجماع” على ترك قضية الهوية عموما مدفونة تحت طبقة كثيفة من الخوف، بل الرعب من إخراج البعبع العنصري من قمقمه. أرى ـ على العكس من هذا التعتيم المنهجي ـ أن غزو البلاد من طرف جماعات أجنبية أكثر إلحاحا لبالغ خطورته، و أضمن للانسجام المجتمعي أن يطرح للبحث الموضوعي و النقاش الجاد من عديد المواضيع، غثةً أو سمينةً كانت، التى تشكل الوجبة اليومية لكل من ينشط فى المجالات الإعلامية و الإدارية و السياسية و الثقافية. عندما يكون التهديد هو تهديد للوجود تصبح مواجهته أولوية و فوق كل اعتبار آخر.. من ناحية أخرى يمكن تفهُم دوافع هؤلاء الأشقاء الأفارقة الذين أوصلهم العوز فى أوطانهم و البحث عن العيش الكريم إلى الانخراط من حيث لا يدرون فى أجندات قوى استعمارية لها مصلحة فى الإيقاع بالشعب الموريتاني، و أغلبيته العربية على وجه الخصوص.
روتين التسلل
تعْرِضُ شرطة حماية الحدود على شاشة الموريتانية هذه الأيام حيثيات إحباط عملية تهريب عشرات الأطفال القُصَر من السنغال و اعتقال أعضاء وسائقين من شبكة التهريب المتورطة فى العملية. إن الضخ المستمر للعناصر البشرية من الجوار الجنوبي إلى هذه البلاد الغافلة روتين يتكرر منذ عقود من الزمن. المسألة معروفة إجمالا لدى الرأي العام لكن تفاصيلها غير مُطَّلع عليها بسبب التعتيم الذى تضربه السلطات المتعاقبة من جهة، و تواطؤ الإعلام و السياسيين و النخب فى الموضوع مع هذه السلطات من جهة ثانية. و ليس تهريب الأطفال جديدا، فقد ظلوا يأتون فى أعداد كبيرة و يمكثون فى الشوارع بلا هوية و لا أوراق إقامة، يعتاشون على الصدقة و ربما النشل حتى يكبروا و يصبحوا مواطنين موريتانيين بحكم الواقع .. لماذا هذا التعتيم؟ سؤال بَرِيء لكنه يختزل ما يعتبره وطنيون كثر مؤامرة ضد المكون الرئيسي للشعب الموريتاني تهدف إلى تحويله إلى أقلية فى بلده، أو حتى إلى القذف به خارجه مثلما ما وقع فى تجارب و بلدان أخرى .. يعيد هؤلاء للأذهان الكارثة التى حلت بالشعب الفلسطيني و التشرد الذى يعيشه منذ سبعين سنة فى القصة المأساوية المعروفة لدى العالم أجمع. إن الطريقة واحدة فى الحالتين و هي الاستعمار الاستيطاني. و ما هو الاستعمار الاستيطاني؟ هو النوع الأخطر و الأخبث من الاستعمار حيث يعتمد فى الأساس على زرع مجموعات بشرية أجنبية فى البلد المستهدف ثم إضفاء الشرعية عليها بعد ذلك حيث يصبح من العسير أو المستحيل مقاومة هذا الغزو لأن أية سلطة تجرؤ على ذلك ستصطدم بدول و منظمات حقوقية معبئة سلفا لهذا الغرض. أما الاستعمار العسكري التقليدي على فظاعته فيمكن التخلص منه و لو طال بواسطة المقاومة العسكرية و السياسية كما هو معروف تاريخيا.
الطريقة واحدة إذن فى الحالتين، الفلسطينية، والسيناريو الكارثي الذى يترقب البعض حدوثه للموريتانيين. لكن المقارنة فى رأي هؤلاء تنتهي هنا. ففي الحالة الأولى كانت السياسة (وعد بلفور) و القوة العسكرية ظهير المستوطنين اليهود من جهة، و كانت الحيل الخبيثة لهؤلاء، تسللهم فى النسيج الفلسطيني، شراءهم للمساكن و الأراضي و غير ذلك من المكر أسلوبا آخر للاستيطان .. أما فى الحالة الموريتانية المتخيلة نتيجتها المأساوية فلا جيوش تحمى طالبي الاستيطان و لا فتوى سياسية من أي نوع لكن تسلُّلٌ و شراء ذمم و تزوير أوراق و شبه حرب عصابات مع السلطات المكلفة بالحالة المدنية .. فضلا عن الاتكاء على بعض الأحزاب السياسية “اليسارية” و الإسلامية و المنظمات التى ترفع شعار الدفاع عن الأجانب فى ما تسميه الكزينوفوبيا أو كراهية الأجانب.عودنا الجميع على الاعتراض على أي إجراء معاقبة أو ترحيل تتخذه قوات الأمن ضد المخالفين للإقامة. و ترضخ السلطات فى ذلك فى كثير من الأحيان لتلك الاعتراضات بسبب التخاذل و الضعف البنيويين عندها و الذين سنذكرهما فى ما بعد.
لما ذا تُعتِّم السلطات الموريتانية المتعاقبة على هذا الزحف المستمر؟
سؤال خطير كما قلنا لأنه يثير إشكالية علاقة هذه الأنظمة بالمستعمر القديم/الجديد، فرنسا، من جهة، و جوار موريتانيا الجنوبي، من جهة أخرى .. أما فرنسا فهي وفية لفلسفتها القاضية بسلخ أجزاء من الأوطان كما فعلت فى أفرقيا الغربية نفسها على طولها و عرضها. وسِيلتُها فى حالة موريتانيا هي حشوُ هذا البلد المترامي الأطراف بالعنصر البشري الأجنبي عبر أذرعها و نفوذها فى أفريقيا جنوب الصحراء. مصلحة فرنسا فى ذلك الحشوِ و هذا السلخ لموريتانيا من محيطها الطبيعي المغاربي هو أن تظل ضمن بيت الطاعة الأفريقي المضمون ولاؤه لأُفقٍ غير منظور.. لم يكن للأنظمة الموريتانية المتعاقبة بطبيعة الحال فرصة للرفض، أو حتى إبداء الرأي فرضخت للأمر مؤثرة الصمت و التعتيم خوفا من إغضاب أي من الأطراف. ذات النهج توارثته الأجيال الحاكمة جيلا بعد جيل إلى يوم الناس هذا. أما دول المنبع لهذا الهجرة الزاحفة و المستوطنة، السنغال، مالى، بركينا فاسو، غامبيا، ساحل العاج، إلخ.. فهي مستفيدة من هذه الظاهرة استفادة جلية من خلال وجود متنفس لشبابها العاطل. حالة السنغال تتميز فضلا عن ذلك بالقرب الجغرافي حيث حدودنا مشتركة، ثم بالاكتظاظ الشديد لساكنتها حيث أصبح عدد سكان هذا البلد يتجاوز 15 مليون نسمة على أقل من 200 ألف كيلومتر مربع. هذا الاكتظاظ و القرب الجغرافي زائدا نشاط و حشد وتشجيع مجموعات سياسية للمهاجرين أبرزها امتدادات تنظيم “فلام” القومي البولاري فى هذا البلد، هذه ألأبعاد الثلاثة هي التى تفسر التواجد الطافح للجالية السنغالية فى موريتانيا والتى قدرتها القنصلية السنغالية فى نواكشوط بحوالي 60 ألف نسمة، و لا شك أن عددا قريبا من هذا الرقم لم يشمله الإحصاء، و ينشط فى هذه الأوساط كالسمكة فى الماء و بالتعاون مع سماسرة محليين، صيادو الجنسية الموريتانية .. هذا و يتهم البعض، من جهة أخرى، سلطات السنغال بالتغافل عن النزيف الحاد لساكنتها حيث ترى فيه تخفيفا لضغط البطالة و ربما صرفا لمجموعات أثنية من شعبها مشاكسة تاريخيا. يلاحظ هنا فى الجالية السنغالية التدني النسبي للولوف فى مقابل الفلان الأكثر حضورا.
أما اللاعب الرئيسي اليوم فى عملية الاستيطان لا يمضى يوم إلا و تظهر فيه بصمة مشروع ” قوى تحرير أفارقة موريتانيا”، (فلام) .. من نشر “بيان الزنجي الموريتاني المضطهد” عام 1966 إلى محاولة الانقلاب العسكري العنصري الفاشل الذى دبرته هذه المنظمة سنة 1987، و كانت ردة فعل نظام معاوية ولد الطائع آنذاك غير موفقة من خلال تصفية حسابات دامية بين العسكريين و التى قتل فيها عديد الضباط الزنوج، و هي مدانة بشدة و من كان يراها شكلا من “الحماية” لمكوّن البظان العرب فهو واهم أو مُغفل. الطريق الأسلم كان يقتضى تقديم المتورطين إلى محاكمة علنية عادلة ينكشف من خلالها للرأي العام الوطني و الدولي إجرام مشروعهم و خطره. أما المحاكمات السرية و التصفيات التى جرت فكان ضرها أكثر من نفعها كما تبين ذلك فى ما بعد و كانت تصب فى بروباغندا فلام و الأوساط المتعاطفة معها و هي كثيرة .. وتستمر عربدة هذا التنظيم المجرم. فلا شك أن الذاكرة الشعبية ما زالت تحتفظ باعتداآت “لا تلمس جنسيتي”، البنت الشرعية لفلام، فى مدن الضفة و منها مقامة التى قتل فيها شاب بريء، ثم التمرد الذى قامت به بعد ذلك فى جامعة نواكشوط حيث أحرقت و كسَّرت و اعتدت على الطلاب العرب. و بمرور الزمن تكتسب فلام مزيدا من الخبرة التدميرية و تترقى إلى أسلوب الاندساس فى كل حراك اجتماعي أو مطلبي. من ذلك اختراقها لحراك سائقي التاكسى منذ ثلاث سنوات حيث اندست عناصر منها و أفشلت خطة تنظيم السير فى نواكشوط التى أقامتها وزارة النقل .. و من ذلك أيضا تحريكها للغوغاء أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة و تجنيدها لأجانب من ست دول أفريقية ليُحرقوا و يُكسروا و يَنهبوا، و ذلك باعترافهم هم أنفسهم. معاملة سلطات الأمن معهم كانت رحيمة على أرض الواقع كالعادة و مُرعِدة و مُزمجِرة فى وسائل الإعلام .. كل هذا البطش و الاصطياد فى المياه العكرة يصحبه خطاب ناري متطرف و إقصائي يستغل ضعف القانون و سلبية الإعلام و النخب و تغافل السياسيين و تمالُأ بعضهم.
مسألة لا بد من ذكرها هنا و التأكيد عليها و هي ضرورة عدم الخلط بين منظمة سياسية مُأدْلجة و لها ارتباطاتها الخارجية المعروفة مع مكوِّن الزنوج الوطني الكريم، حتى و لو كانت هذه المنظمة تدَّعى التكلم باسمهم زورا .. الجميع يعلم أنهم لم يُفوضوهم فى شيء من هذا الأمر.
أربعة إجراآت لتفادى حدوث السيناريو الرهيب
أولا ـ إدراك حجم الخطر من طرف الرأي العام و قد تجمعت، كقطع من الليل مظلمة، كل عناصره .. و كفُّ السياسيين و الإعلام و النخب كذلك عن دَسِّ رؤوسهم فى الرمال كي لا يعترفوا بوجود هذا الخطر و تظل ضمائرهم فى راحة، و رفع الحظر عن هذا التابوه ليوضع على ساحة النقاش العمومي مثل كل القضايا الوطنية ليتحاور حوله الفرقاء السياسيون بحرية و بموضوعية تامة. لا أحد طبعا يدعو إلى بناء جُدُر ترمب أمام المهاجرين و لا إلى عزل البلد عن محيطه الأفريقي، لكن يجب إطلاق ناقوس الخطر لوضع حد للغزو المنظم والمتعدد الأوجه لهذا البلد و محاولات تغيير ديموغرافيته و هويته .. يكفى ما قد حصل من تحويل البلاد التى كانت لعهد قريب محددة الملامح واضحة الانتماء إلى دويلة هجينة هُلامية لا يُميّزها شيء.
ثانيا ـ من واجب السلطات الحاكمة أن توفر حماية حقيقية للبلد من تسلل المهاجرين وتمنع التجنس غير الشرعي و معاقبة المخالفين بلا ضعف و لا تردد للحفاظ على شخصيته المميزة، مهما كانت الضغوط و مهما كانت التكاليف. وكالة الوثائق المؤمنة أداة هامة لضبط الأمور فى هذا المجال لكن تزوير شهادة الميلاد الذى يحصل قبل ولوج المعلومات إليها هو المعضلة الدائمة التى يجب على هذه السلطات وجود حل جذري لها. من دون ذلك لا يمكن منع المتسللين الأجانب من الحصول على وثيقة الجنسية الموريتانية المفروض قدسيتها كما هي الحال فى جميع دول العالم.
ثالثا – على الدولة أن تضع من دون تأخير سياسة جادة للتكوين المهني مصحوبة بحملة تحسيس دائمة لتوجيه الشباب إلى العمل اليدوي و التقني لقطع الطريق أمام استحواذ الأجانب على فرص العمل التى يوفرها الاقتصاد الوطني. كل الشر يأتى من ترك هذا القطاع الأساسي حكرا على غير الموريتانيين بسبب احتقار البظان المتأصل فى ثقافة الفخر و التعالي عندهم و ميولهم إلى الوظائف “السامية” أو قليلة الجهد مثل تجارة الحوانيت. فما داموا غائبين عن الورش و المهن الفنية و الصيد التقليدي سيظل الفناء يتهددهم، و لن تُغني عنهم طبقة مترفة منهم قليلة العدد غارقة فى الشهوات غافلة عن أمور دنياها و آخرتها.
رابعا ـ على السلطات مراقبة عمل البعثات القنصلية فى الخارج و تسليح القائمين عليها بتعليمات تمنع تزوير الوثائق و تتابع جنائيا مرتكبيه. لا تخفى علاقة هذه الاجراآت مع الخط السياسي للبلاد وسيادتها المفروضة حيث من واجب النظام القائم فرض سلطته على حدوده و التمسك بشيء من الغيرة على شؤونه الداخلية.
خلاصة
يتجلى خطر الاستيطان فى
1-اقتلاع الشعب من جذوره و الرمي به فى أتون العبودية و التشرد و الشقاء
2- تغيير الوجه الحضاري للبلد وزرع حضارة و ثقافة أخرى على أنقاضه
3- خلق بؤرة جديد من عدم الاستقرار فى المنطقة أشد من الإرهاب
درْأُ خطر انقراض أو تشرد هذا الشعب الذى ينمو ككتلة الثلج مسؤولية الجميع و على الجميع أن يعلم أن مظاهر الاطمئنان خادعة و اعتبار الوضع “عاديا” لا يناسب تطور الأحداث وأن أولاد حسان تقول (لهروب ألا كبل الحوكك) و لا ينفع الندم بعد وقوع الفأس على الرأس.
نواكشوط فى 17 يوليو تموز 2019