لجنة المسابقات: العبث بمسابقة التعليم العالي واستحالة مشروعية القرارات/ د محمد المختار بلاتي ( رأي )
الموريتاني : قبل ما يقارب سنة كاملة من الآن، أو كلت الدولة الموريتانية للجنة الوطنية للمسابقات الاشراف على اكتتاب مائة أستاذ وتكنولوجي للتعليم العالي، لاعتقاد الحكومة أنّ اللجنة لديها من الكفاءةوالنزاهة، ما يمكنها من تنظيم مثل هذه المسابقة بأمانة وجدارةواقتدار، لكن الواقع، أثبت ميل لجنة التحكيم -المحكومة مركزيا دون رأي خبرائها- إلى العبث بالمسابقة، والخروج بها عن المشروعية.
كيف تم العبث بالمسابقة؟
منذ إعلان المسابقة يوم 7 ديسمبر 2023، بدا واضحا أن لجنة المسابقات، عاجزة فنيا عن تنظيم مثل هذا النوع من المسابقات،وأن اللجنة لديها من جهة أخرى رغبة في العبث بالمسابقة، وتوزيع المقاعد المطلوبة بشكل غير معياري، لأسباب، تبدو جهوية،وأحيانا سياسية، ولأسباب أخرى، لامجال لذكرها في هذا المقام.
-تميد آجال الترشح وتغيير توصيف المقاعد: ارتبط العدالة في الفكر الفلسفي منذ أفلاطون وإلى اليوم بالمساواة، ونفي الفوارق، وكل خروج على المساواة في أي تسابق، يمثل خرقا سافرا للعدالة.
وقد انكشف خرق اللجنة لمبدأ المساواة، وتوجهاتها الجائرة، منذ تمديدها لآجال الترشح، فبعد أن كان الاجل المحدد لتقديم الملفات للفترة ما بين 7 دجمبر إلى 27 من نفس الشهر 2023، مددت اللجنة آجال الترشح من 27 دجمبر إلى 11 يناير 2024، ثم مددت هذه الآجال مرة أخرى من 11 يناير إلى غاية 25 يناير 2024 ، ولم تكن هذه التمديدات إلا لمصلحة أشخاص، لم تكن لديهم ملفات علمية أصلا، ويراد لهم تكوينها، أو لم يكونوا مؤهلين للترشح قبل تغيير توصيف المقاعد.
هذه البداية المنحرفة، أشفعتها اللجنة -بعد ذلك- باستبعاد ما يقارب 230 مترشحا من أصل 600 مترشحا من أصحاب الكفاءات العالية من المقبولية الإدارية، واستبعادهم نهائيا من المشاركة في المسابقة، أحيانا بتوجيه ضمني من منافسين، لديهم شبكة علاقات في التعليم العالي، وأحيانا لأسباب واهية، لا يوجدلها سند في النصوص المنظمة للمسابقة.
ببساطة، كانت تمديد أجال الترشح، وتغيير طبيعة بعض المقاعد، واستبعاد كفاءات عالية من المقبولية الادارية، مؤشرات تؤكد حقيقةالعبث بالمسابقة وانحرافها، كما تدل على رغبة لجنة التحكيم في توزيع المقاعد على أسس بدائية، تنتمي لما قبل دولة تكافؤ الفرص: دولة القانون والعدالة والمساواة.
-تغيير شبكة التنقيط بعد ثمانية أشهر من المسابقة:أكدت المرحلة الثانية من الاكتتاب (مرحلة قابلية النجاح) حقيقة الانحراف الذي طال المسابقة، فبعد دراسة اللجنة لملفات المتسابقين لمدة ثمانية أشهر، ومعرفتها للناجحين الاستحقاقين،ومن أجل منع تفوقهم، لجأت إلى تغيير شبكة التنفط الأصلية،بشبكة أخرى مستحدثة، لتسمح لنفسها باختيار الناجحين الأوائل على المقاس، بعيدا عن كل الضوابط القانونية، والمؤهلات العلمية،التي بدونها لا يجوز لأي شخص أن يرتقي لأمانة التعليم العالي.
شكل تغيير شبكة التنقيط دلالة فارقة في تأكيد عبث لجنة المسابقات باكتتاب التعليم العالي، وتقسيم مقاعده بشكل غير استحقاقي، ولا أدل على ذلك من رفض اللجنة لاحتساب آلاف الساعات لأغلب المترشحين، ورفض تقييم عشرات المقالات والكتب لأسباب تمييزية، غايتها حجز التصدر لأشخاص، ليس لدى أغلبهم كل هذه المؤهلات، التي قررت اللجنة إبطالها.
-استبعاد دور الخبراء: يمثل الخبراء في أي مسابقة المرجع لتحديد مخرجاتها، لكن ما ميز هذه المسابقة بالذات هو تهميش الخبراء من قبل رئيسة لجنة التحكيم، فبدلا من منحهم اختصاص تقييم عناصر الملف بشكل كامل، وإسناد العلامات المستحقةللمتسابقين، رفضت رئيسة لجنة التحكيم منحهم هذا الاختصاص، مكتفية باستشارة الخبير حول بعض الجوانب البسيطة، مثل طبيعة مجال البحث واختصاص الباحث، وقد صرحوا بذلك في أكثر من مناسبة، وبالفعل، فإنه خلال مقابلةالمرحلة الأخيرة، لم يسمح للخبراء بإسناد علامة محددة، فهم يسندون ملاحظات فقط، تبدأ بضعيف، وتنهي بجيد، ويبقى لرئيسة لجنة التحكيم تحديد من ينجح، دون رقابة على سلطتها المطلقة في هذا المجال!!
-تأهيل أغلب المتسابقين للنجاح: من أجل أن تغطي لجنة التحكيم على تجاوزاتها وعبثها بالمسابقة، لجأت إلى اتخاذ قرار بتأهيل أغلب المترشحين -بمعدلات دون نصف النقاط- لإعطائهم أملا كاذبا في النجاح، فكيف يسمح بتأهيل 20 شخصا للتنافسعلى مقعد واحد؟ وكيف يسمح بالنجاح الاولي لمترشحين لم يحصلوا على نصف النقاط المرصودة؟ إنها العبثية الماكرة التي لا تعطي إلا لتأخذ!!
لماذا استحالة مشروعية قرارات لجنة المسابقات؟
يسود إجماع بين أغلب المترشحين، وبين أستاذة التعليم العالي والعارفين بالقطاع، إلى أنّ هذه المسابقة، لا يمكن أن ينطبق عليها هذا الاسم، بقدر ما يمكن أن تصنف بأنها توزيعات “مشارية” بالحسانية، وهو ما يفقد مخرجاتها -المزورة -أي مشروعية وأي اعتبار في مجال التعليم العالي.
-عدم اختصاص لجنة ى المسابقات في البت في التظلمات: لكن بشكل أدق، فإنّ استحالة المشروعية التي تواجهها قرارات لجنة المسابقات، تتعلق بعدم اختصاص هذه اللجنة بالبت في التظلمات أيا كان نوعها، فالتظلمات سواء تعلقتبالمقبولية الإدارية، أو بقرار قابلية النجاح، أو بقرار النجاح النهائي، يعود اختصاص البت فيها إلى آلية تسوية النزاعات،المستقلة هيكليا عن لجنة المسابقات، وحلول اللجنة محل هذه الآلية، كما حصل في هذه المسابقة، يجعل قرارات البت في التظلم صادرة عن سلطة غير مختصة، ومستوجبة للإلغاء.
لقد نصت المادة 15 جديدة من المرسوم رقم 2023/ 068 بتاريخ10 ابريل 2023 يعدل ويكمل بعض ترتيبات المرسوم 2014/060 بتاريخ 13 مايو 2014 المتضمن إعادة تنظيم وسير اللجنة الوطنية للمسابقات (الجريدة الرسمية رقم 1532)
على أنه : ” من أجل تعزيز الشفافية والإنصاف، يم إنشاء آلية خاصة مكلفة بتسوية الطعون الناجمة عن تنظيم المسابقات الادارية الوطنية، تحيل اللجنة الوطنية للمسابقات، إلى آلية تسوية نزاعات المسابقات الوطنية إشعارات التظلمات المترتبة على تنظيم المسابقات الوطنية”.
مثل إنشاء آلية تسوية نزاعات المسابقات الوطنية مفخرة لدى الحكومة الموريتانية، عندما قالت وزيرة الوظيفة العمومية السابقة، إن الدولة حققت إنجازا كبيرا بفصلها لآلية تسوية نزاعات المسابقات عن لجنة المسابقات، وهو ما تم تجسيده بالمقرر رقم 0934 بتاريخ 10 أكتوبر 2023 الذي يلغي ويحل محل المقرر رقم 540 بتاريخ 7 يونيو 2023 المحدد لقواعد تنظيم وسير آلية تسوية نزاعات المسابقات الوطنية (الجريدة الرسمية رقم 1555).
ورغم أن هذا المقرر، نص في مواده 2، 3، 4 على الاختصاص الحصري لآلية تسوية النزاعات في البت في تظلمات، إلا أنّ لجنة المسابقات، لا ترغب حتى الان في تفعيل آلية تسوية النزاعات، متحدية بذلك التوجهات الحكومية، من أجل أن تبقى هي سيدة الموقف، تظلم، ويتظلم أمامها، تقرر من ينجح دون معايير، ومن يقصى رغم أنف المعايير، لتبقى دائما هي الخصم والحكم.
هل من نماذج خاصة؟
-اعتصام وتظلمات وطعون قضائية: لم تشهد أي مسابقة للتعليم العالي من اللغط والتظلم والاحساس بالجور، ما عرفته المسابقة الحالية، فمنذ ثلاثة أسابيع، تعتصم مجموعة من الدكاترة والمهندسين في مقر لجنة المسابقات، احتجاجا على تزوير المسابقة، كما أنه في ذات السياق، تقدم أقل من نصف المترشحين (230) تظلما ضد قرار المقبولية الإدارية، وهناك 4 مقاعد علقها القضاء على هذا الأساس، وتم تقديم 137 تظلما ضد مرحلة قابلية النجاح المؤقتة من أصل 270، ووصلت الطعون القضائية في دعوى جماعية إلى 28 طاعنا، مع وجود عشرات الطعون الفردية على مستوى الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا.
-مقاطعة واسعة النطاق للمقابلة: بسبب العبثية وعدم اليقين حول نزاهة المسابقة، وتحكم رئيسة لجنة التحكيم في جميع تفاصيلها، قاطع الكثير من المتسابقين المؤهلين للنجاح إجراء المقابلة ( وصفهم موظف في اللجنة بأنهم جمع كثير) لأنهم اعتبروانتائجها محددة سلفا، ولا يمكن للمقابلة أن تغير هذه النتائج،وبالفعل فإنّ عدم تمكين الخبراء من إسناد علامات محددة في المقابلة، كانت دليلا قاطعا على هذه الحقيقة المذهلة!!
-حالات نموذجية: وإذا أخذنا حالتي كنموذج، رغم ما فيحديث المرء عن نفسه من الاحراج، فإنني قدمت للجنة المسابقات ملفا يحتوي 3 كتب، وما يقارب ثلاثين بحثا منشورة في مجلات دولية ووطنية، وما يقارب هذا العدد من الندوات الدولية والمغاربية، وتجربة ثمان سنوات من التدريس، منها خمس سنوات لتدريس ماستر حقوق الانسان، وماستر العلاقات الدولية، ومسار مهني فيه شهادات وإفادات ما بعد الدكتوراه، وخبرة وظيفية مثبتة.
لم تمنح اللجنة صاحب هذا الملف إلا الرقم 5 ضمن المؤهلين للنجاح في القانون الدستوري، في حين أعطت رتبا متقدمة لمتسابقين، بعضهم خارج المجال، وبعضهم، لديه مقالين أو ثلاثا فقط، وبشكل عام، لا يمتلكون نصف المؤهلات التي تقدمت بها،رغم أنّ النشر محسوب بخمسين نقطة، ويصعب على من لميستكملها أن يتأهل للنجاح، أحرى أن يتصدر الناجحين!!
بدلا من أن تكون التظلمات سببا للإنصاف، استخدمتها اللجنة للاستهداف الشخصي، فبعد أن قدمت إليها تظلمي وحججي الثابت على هذا التظلم، أخرت ترتيبي -نكاية في-إلى الرتبة 7 بدلا من الرتبة 5، وبعد مراجعتها، لم تكن الإجابة سوى أنني فعلا لدي بحوث كثيرة، واستفدت من احتساب سبع مقالات جديدة في الاختصاص، لكن نتيجتها، أخرت ترتيبي، ولم تزد نقاطي، ففهمت أن اللجنة، تريد معاقبتي على فضح فسادها في مقابلة تلفزيونية، أجريتها قبل البت في التظلمات!!
في نموذج آخر مليء بالدلالات، رفضت لجنة التحكيم تقييم عشرات البحوث لأستاذ في كلية الآداب، معللة ذلك بأن هذه البحوث، لا يمكن تقييمها لأنها مكتوبة باللغة العربية!! ورفضت احتساب ما يزيد على ألف ساعة لأستاذ يدرس الفيزياء منذ 11 عاما مماسح لطلابه بالتفوق عليه بسبب الاقصاء!
كما رفضت قبول ترشح أستاذين لمقعد اللسانيات في كلية الآداببجامعة نواكشوط، وقبلت ترشحهما في معهد نواذيبو في نفس الاختصاص، وكأن مقعد نواكشوط محجوز مسبقا لأشخاص محددين، لا تليق مزاحمتهم في المسابقة!
أكثر من ذلك، رفضت لجنة التحكيم احتساب مئات ساعات التدريس الصادرة عن المعهد العالي للمحاسبة وإدارة المؤسسات ISCAE معللة ذلك بأنها موقعة على رأسية رئيس قسم، ولكنها قبلت إفادات تدريس صادرة بنفس الصيغة عن نفس المؤسسة لمتسابقين آخرين، وكأنها بذلك، تمارس إقصاء ممنهجا ضد بعض المتسابقين.
إنها مفارقات لجنة المسابقات، التي تعمل خارج القانون، وخارج سياسة الانصاف والعدالة، التي ينتهجها رئيسالجمهورية، وتجسدها الحكومة من خلال فتح باب التظلم الإلكتروني والتظلم المباشر.
فإلى متى ستستمر عبثية لجنة المسابقات؟
وإلى متى سيسمح لهذه اللجنة باستهداف النخبة وازدرائهم؟
وإلى متى سيستمر خرق اللجنة للمشروعية، وتجاوزها للسياسات الحكومية؟