موريتانيا والهجرة غير النظامية: بين السيادة الوطنية والمسؤولية الإنسانية/ حانه الشيخ ماء العينين

الموريتاني : لم تعد قضية الهجرة غير النظامية مجرد تحدٍّ عابر لدول الساحل أو شمال إفريقيا، بل تحولت إلى أزمة دولية تتطلب سياسات صارمة ومتوازنة. وموريتانيا، بحكم موقعها الاستراتيجي، وجدت نفسها في قلب هذه الظاهرة، حيث أصبحت نقطة عبور رئيسية للمهاجرين غير النظاميين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء والمتجهين إلى أوروبا عبر سواحلنا.
لكن، هل يتوقع منا أحد أن نبقى متفرجين بينما تُستغل بلادنا كممر للفوضى؟ هل يُعقل أن نُنتقد لمجرد أننا نحمي سيادتنا ونطبق قوانيننا؟
خلال فترة عملي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، كنت شاهدة على العديد من حالات الهجرة غير النظامية التي وصلت إلى سواحلنا، ورأيت كيف تعاملت السلطات الوطنية مع الأمر. لقد حضرتُ وقائع مأساوية لمهاجرين حاولوا تجاوز حدودنا البحرية بطرق غير قانونية، فتم توقيفهم من قِبَل خفر السواحل الموريتانية، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، فأي دولة ذات سيادة تحمي مياهها الإقليمية وحدودها البرية والجوية. موريتانيا ليست استثناءً، بل تقوم بما تقوم به كل الدول ذات السيادة.
لكن الفرق هو أن موريتانيا لم تكن يومًا دولة تتعامل بوحشية مع المهاجرين. على العكس، فقد حرصت السلطات، بالتعاون مع الهلال الأحمر الموريتاني، على تقديم الرعاية الطبية للمصابين، وتوفير المساعدات الأساسية للحفاظ على كرامتهم، قبل العمل على إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية وفقًا للقوانين الدولية وبأقصى درجات الاحترام والإنسانية. هذا هو نهجنا: حماية القانون دون المساس بالكرامة الإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، استقبلت موريتانيا منذ عام 2012 آلاف اللاجئين الماليين الفارين من النزاعات في بلادهم. يعيش هؤلاء اللاجئون في مخيم “امبرة” الواقع في الجنوب الشرقي من البلاد. في عام 2024، بلغ عدد اللاجئين الماليين في موريتانيا حوالي 105,000 لاجئ.  يُوفر المخيم الخدمات الأساسية، بما في ذلك التعليم للأطفال والمرافق الطبية، مما يعكس التزام موريتانيا بمسؤولياتها الإنسانية.
ندرك جميعًا أن المهاجر غير النظامي لا يغادر بلاده حبًا في المخاطرة، بل لأنه يسعى إلى حياة أفضل. لكن هل هو الضحية الوحيدة؟ لا، فبلاد العبور، مثل موريتانيا، تتحمل أعباءً اقتصادية وأمنية ضخمة بسبب تدفقات المهاجرين. نخصص موارد مالية وإدارية ضخمة لإدارة هذا التدفق، ونتعامل مع الضغوط الخارجية، ونواجه المخاطر الأمنية المرتبطة بهذه الظاهرة، مثل الجريمة المنظمة، وتهريب البشر، وتجارة المخدرات، وحتى التهديدات الإرهابية التي قد تستغل هذه الفوضى.
أما الدول الأوروبية، فهي أيضًا ضحية، حيث تواجه ضغطًا هائلًا على سوق العمل وأنظمة الضمان الاجتماعي والاندماج الثقافي، فضلًا عن التحديات الأمنية.
لكن الحقيقة التي يغفل عنها البعض هي أن الهجرة غير النظامية أصبحت تجارة مربحة لشبكات تهريب البشر التي تستغل معاناة المهاجرين، وتحقق أرباحًا خيالية على حساب أرواحهم. إنها ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل اقتصاد خفي قائم على الاستغلال والفوضى.
ما لا أستطيع فهمه هو لماذا عندما تتخذ دولة أوروبية إجراءات صارمة لحماية حدودها، يتم اعتبار ذلك أمرًا طبيعيًا وحقًا سياديًا، لكن عندما تفعل موريتانيا الشيء نفسه، تخرج بعض الأصوات لتهاجم القرار وكأن حماية حدود بلادنا ليست من حقنا!
لقد طالبنا مرارًا بسياسة هجرة واضحة وصارمة تحمي حدودنا وسيادتنا واستقرارنا الداخلي، وعندما استجابت الحكومة ووضعت إطارًا محكمًا لهذا الملف، بدأ البعض في التشكيك والمزايدة السياسية، بل وصل الأمر إلى حد المطالبة بتخفيف الإجراءات!
كيف يعقل أن نطالب الدولة بتشديد سياساتها ثم نعارضها حين تقوم بذلك؟ أليس هذا تناقضًا صارخًا؟
موريتانيا ليست مجبرة على استقبال من لا يحترم قوانينها. يجب أن يكون واضحًا للكثير من دول الجوار أن الهجرة إلى موريتانيا ليست حقًا مكتسبًا، بل هي امتياز تنظمه القوانين والسياسات الوطنية.
لقد استقبلنا في موريتانيا عشرات الآلاف من المهاجرين من دول الجوار، وأكبر جالية أجنبية على أرضنا هي الجالية المالية، بل إن عدد الماليين في موريتانيا يفوق عددهم في العديد من الدول المغاربية مجتمعة، ومع ذلك لم نجد نفس الأصوات التي تهاجم سياسات الهجرة في أوروبا تتحدث عن هذا الواقع.
المشكلة الحقيقية ليست في عدد المهاجرين فقط، بل في أن البعض منهم لا يحترم قوانيننا ولا يلتزم بقواعد الجمهورية الإسلامية الموريتانية. وهنا، من حق الدولة أن تتخذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على استقرارها الاقتصادي وأمنها الداخلي وانسجامها الاجتماعي.
فمن بين النقاط التي يهاجمها البعض، الاتفاقيات التي وقعتها موريتانيا مع بعض الدول الأوروبية، وخاصة إسبانيا، لمكافحة الهجرة غير النظامية.
لكن، أليس من الطبيعي أن توقّع الدول اتفاقيات تصبّ في مصلحتها؟ لماذا عندما توقّع موريتانيا اتفاقية يُنظر إليها وكأنها تنازل عن السيادة، بينما عندما تبرم الدول الأخرى اتفاقيات مماثلة، يُنظر إليها كخطوات استراتيجية؟
موريتانيا دولة ذات سيادة، واتفاقياتها مبنية على المصالح المشتركة، لا على الإملاءات الخارجية. وإذا كان هناك من ينتقد، فليقدم بديلًا واقعيًا ومدروسًا بدل الاكتفاء بالشعارات الشعبوية.
فالهجرة أزمة إفريقية وليست وطنية فقط،
أزمة الهجرة ليست مسؤولية موريتانيا وحدها، بل هي أزمة إفريقية بامتياز. القارة تعاني من النزاعات المسلحة وضعف الاقتصاد و انتشار الفساد و انعدام الفرص، مما يدفع الملايين إلى المخاطرة بحياتهم عبر الصحراء والبحار.
موريتانيا ليست جزيرة معزولة، لكنها أيضًا ليست مسؤولة عن حل مشاكل القارة وحدها. من حقها أن تدافع عن حدودها وأمنها واستقرارها، تمامًا كما تفعل كل الدول.
في النهاية الوطن أولًا وأخيرًا
لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لبعض الموريتانيين أن يعملوا على زرع الفتنة، وتأجيج الكراهية، والتشكيك في قرارات الحكومة، فقط لأنهم يريدون كسب بعض الشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي!
الوطن ليس مجرد شعار، الوطن هو أمننا وسيادتنا وقوتنا ومستقبل أبنائنا. من لا يستطيع أن يضع الوطن فوق كل اعتبار، فلا يمكن أن ننتظر منه إلا أن يكون أداة للفوضى والانقسام.
موريتانيا لن تكون محطة عبور للفوضى، ولن تكون ساحة مفتوحة لمن لا يحترم قوانينها. من أراد أن يعيش في موريتانيا، فليحترم قوانينها، ومن أراد أن يشكك في سياسات الحكومة، فليتذكر أن سيادتنا ليست قابلة للنقاش!