المسرح في موريتانيا… غائبٌ عن مشهد يتطلب حضوره

شهدت موريتانيا في السنوات الأخيرة تصاعداً لافتاً للنقاشات حول الهوية والمواطنة، والحقوق الاجتماعية، والعدالة الثقافية، في ظل مناخ يتقاطع فيه الإرث القبلي، والتنوع العرقي، والتفاوتات الجهوية، مع مطالب الحركات الشبابية والمدنية.
غير أن هذا الحراك المجتمعي، بكل تعقيداته وطاقاته، لا يجد انعكاساً كافياً في الساحة الفنية، خصوصاً في المسرح، الذي يبدو وكأنه لا يزال يبحث عن مكانه في الخريطة الثقافية للبلاد.
في بلدٍ يتشكل من فسيفساء عرقية وثقافية نادرة، ويواجه تحديات متعددة على صعيد بناء الدولة والمجتمع، يبرز سؤال جوهري: أين المسرح من كل هذا؟ ولماذا يغيب الفن الأكثر قدرة على مساءلة الواقع ومخاطبة العقل والوجدان؟
مسرح غائب في زمن الأسئلة الكبرى
المسرح بطبيعته فضاء للتفكير النقدي، ومحطة لطرح الأسئلة المؤجلة، ومنصة تعبير عن الوجدان الجمعي.
وفي سياق مثل السياق الموريتاني، الذي تغذيه التحولات الاجتماعية، والتوترات الهوياتية، والتطلعات الديمقراطية، تزداد الحاجة إلى مسرح حيّ، قادر على تجسيد الصراعات، وترميم العلاقة بين الفرد والمجتمع.
غير أن الساحة الفنية المحلية تكاد تخلو من حركات مسرحية منتظمة أو مؤسسات ترعى هذا الفن.
العروض قليلة، والمواسم المسرحية غائبة، والتكوين الأكاديمي منعدم تقريباً.
ومع أن هناك جهوداً فردية ومبادرات شبابية مشهودة، إلا أنها تصطدم بغياب معاهد متخصصة، وبيئة مؤسسية داعمة، وأفق إنتاجي يضمن الاستمرارية.
البيئة المعوقة: غياب البنى والتكوين
في تحقيق ميداني أجريناه في أطار عاصمة ولاية آدرار شمال البلاد ، عبّر عدد من المسرحيين عن قلقهم من الواقع الذي يعيشه الفن الرابع في البلاد، مؤكدين أن المسرح ما يزال يراوح مكانه بين الهواية والارتجال.
تقول فاطمة سليمان وهي ناشطة ثقافية، فتشير إلى أن الجهل المجتمعي بأهمية المسرح يعكس غياب استراتيجية وطنية للثقافة، مؤكدة أن “الحديث عن نهضة مسرحية في موريتانيا بدون تكوين مؤسسي حقيقي، يظل نوعاً من الحلم الجميل المؤجل”.
الهوية على خشبة الغياب
ربما يكمن جوهر الحاجة إلى مسرح موريتاني حيّ اليوم في كونه وسيلة لترجمة تعقيدات الهوية الوطنية. فموريتانيا بلد يعيش على وقع تعددية لغوية وثقافية: الحسانية، الولفية، السوننكية، البولارية، العربية الفصحى، الفرنسية…
في هذا التنوع تكمن مادة مسرحية خصبة، وقصص تليق بالخَشبة، وتستحق أن تُروى.
لكن هذه الحكايات تُترك في الغالب للمناسبات الرسمية أو تعبيرات سطحية لا تمس عمق الصراع أو الجدل المجتمعي.
المسرح الغائب لا يستطيع أن يلعب دوره في تفكيك الروايات الكبرى، أو التوسط بين الذاكرة والتاريخ، أو تجسيد معاناة الفئات الهشة، من العبيد السابقين، إلى سكان الهوامش، والنساء، والمهمشين ثقافياً.
مسرح بلا جمهور؟ أم جمهور بلا مسرح؟
يُطرح كثيراً سؤال الجمهور في موريتانيا، ويُقال إن “لا أحد يُشاهد المسرح”, لكن الحقيقة التي يكشفها الفاعلون في الميدان هي أن غياب العرض هو ما يخلق غياب الطلب.
ففي كل مرة تُنظم فيها عروض مسرحية مجانية أو مهرجانات مسرحية (مثل “أسبوع المسرح الوطني”)، يُقبل عليها الجمهور، ويتفاعل بشغف.
مقارنة استشراقية: المسرح في موريتانيا والسياقات المشابهة
إذا قارنا موريتانيا ببعض دول الساحل وغرب إفريقيا، مثل السنغال أو مالي أو النيجر، نجد أن هذه الدول -رغم ظروفها المماثلة اقتصادياً واجتماعياً- تستثمر في الفنون بوصفها جزءاً من القوة الناعمة، وركيزة للتنمية الثقافية. فهناك معاهد للمسرح، ومسارح بلدية، وبرامج تعاون دولي داعمة، وهو ما يُمكن أن يُحتذى في التجربة الموريتانية.
الحاجة إلى يقظة مسرحية
موريتانيا اليوم بحاجة إلى مشروع ثقافي وطني يعترف بالمسرح كرافعة للتنوير، وساحة للاحتكاك الفكري، وجسر بين الواقع والطموح.
غياب التكوين المسرحي ليس مجرد نقص تقني، بل هو تعطيل لدور الفن في بناء الإنسان والمجتمع.
وعلى الدولة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، أن يدركوا أن نهضة المسرح ليست ترفاً، بل ضرورة في لحظة تحوّل هوياتي واجتماعي مفصلية.
فهل ننتظر نهضة مسرحية تبدأ من خشبة حلم صغير، أم نظل في مقاعد الانتظار، حيث تُؤدى كل مسرحيات الواقع خارج المسرح؟
تقرير محمد أعليوت … أطار ولاية آدرار