النظام و البيظان و إيرا
محمد فال ولد سيدي ميله
الموريتاني : (ملاحظة: هذا المقال كتب قبل انسحابي من المنظمة بسنوات، إلا أنه لم ينشر أبدا لأسباب تخص المبادرة الانعتاقية. اليوم، وبعد “الأزمة الداخلية” المستفحلة، تبين لي أن من حق التاريخ عليّ نشره للرأي العام، علما بأن ما بين معقوفين هكذا لاحق على المقال، وضعته للشرح بعد أن قررت نشره).
ليست “إيرا”، شأن “نجدة العبيد” و”الحر”، إلا نتاج تراكمات من الحيف بحق مجتمع أرغم على أن ينسلخ من بشريته ليعيش مكبلا بأغلال الرق دون وازع من دين أو أخلاق أو قانون.
اليوم وقد أنجبت جـدّات العبيد جيلا من المتحررين التواقين إلى آفاق جديدة ملأى بأريج المساواة ونسائم الإنصاف، يظل من غير المنطقي دوس مطالبهم، والتصامم أمام شرعية نضالاتهم، ومحاولات وأد مشروع المجتمع الساعين إلى بنائه فوق أنقاض “مدينة الرياح”.
ليست إيرا، وأخواتها في النضال، غير تيار جارف سعى بإخلاص إلى تحقيق معجزة تاريخية، لكنها أيضا ظلت تعاني من كل ما عانته التيارات من زحمة في الرؤى وفوضوية في القرار وتعجرف في الأسلوب. إنها نفس نواقص ومطبات كل الثورات الكبيرة، تلك التي “تأكل أبناءها” وهي تتلوى أسى وحسرة عليهم. إنها، وأساسا، نفس الهزات التي تصيب الأفكار العظيمة فتحيلها دسما يتنزى فوقه كل قلم نحيف وكل مُــفـَــوّهٍ معتوه.
نعم، إن إيرا، باعتراف الإيراويين، نسخة جميلة من كل فكر مستنير، تصطدم في أغلب الأحيان بعثرات بنيوية لا محيد عنها، لكنها، رغم ذلك، تستمد ديمومتها من عمقها الجماهيري وعدالة مقاصدها، مدفوعة بمحرك اسمه “التاريخ” بات واقفا على عتبة البلاد، صارخا في وجه الحكماء والبلداء: “ألا استعدوا للتغيير السلس. لقد أضحت دُول الأعراق قذرا في مزبلة الذكريات البغيضة”.
ليست إيرا، ولا هي كانت، ولن تكون أكبر من النقد.
لكننا قبل أن نوجه السياط إلى جلد منظمة تعبنا في رسم وجهها ومد شرايينها وشد نياط قلبها، يجب أن نكون صريحين مع “عدويـْن” ما لبثا يحاولان تمزيق نسيجها بشتى الوسائل. فالعدو الأول، وربما الأخير، هو النظام القائم الذي على يده تلقت المنظمة أعنف وأكثر الضربات: في الشارع، في مخافر الشرطة، على صفحات الجرائد، على شاشة التلفزة، في المساجد، في المخابز (لست أول من جمع النقيضين)، في الصالونات، في الدوائر الخاصة. حملة شعواء غير مسبوقة.
كان على النظام أن يفهم بعد انقشاع غيمتها أن “الأرض ما زالت تدور” وأن الواقع يؤكد أنها ستظل تدور حتى بعد “إعدام غاليلي”، وأن سياسة تجفيف المنابع لن تكون مجدية في ظل أصوات مطحونة تتزايد وتيرتها بفعل التزايد الديمغرافي لأصحابها، وأن الإقصاء والقمع لن يكونا الأداة الأنجع، بل إنهما إنما يزيدان حجم الحقد وضغينة الانتقام، وأن مسقبل الأحفاد، بل وجود الدولة نفسه، مرهون بحل مشكل العبودية وإنصاف الحراطين، وأن الحكمة تقتضي إصلاح أعطاب البارجة قبل غرقها، وليس بعده.
لم تكن منظمة “والك افري” الأسترالية مجانبة للصواب عندما أعلنت في تقريرها الأخير أن “موريتانيا توجد على رأس الـ 15 بلدا إفريقيا الأكثر ممارسة للرق بشكليه التقليدي والعصري”. كان على النظام، كي يوقف نزيف التقارير المسيئة لسمعة البلاد والضارة باستقرارها، أن يطبق بكل صرامة القانون 0048/2007 المجرم للرق، وأن يكافح الفقر المدقع في آدوابه، وأن يضع الآليات الجادة والفعالة لتطبيق المواثيق الدولية ذات الصلة، وأن تكون إرادته السياسية فوق الاعتبارات العرقية والمهاترات التقليدية والمواقف الشوفينية.
كما كان عليه أن يفرض “التعليم الإجباري على كل الأطفال، وأن يحرم واقعيا تشغيل القـُـصّـر، وأن يعزز البرامج السوسيو اقتصادية لصالح ترقية ضحايا الرق”.
لقد عاشت إيرا بارقة أمل سرعان ما تلاشت لأسباب تظل لغزا لا يقل غموضا عن “طائرة الوالي”. ففي حين كانت المنظمة، تحت تأثير الاعتقالات والمطاردات والمضايقات، تعيش أكثر أوقاتها تطرفا، تسلل النظام، “رويدا رويدا”، مطالبا بحوار جاد وتبادل صريح لوجهات النظر، متعهدا بتحقيق كبريات المطالب (تطبيق القانون الخاص بالرق، تشريع إيرا والحزب الراديكالي، منح الحقوقيين حق النظر في تسيير “وكالة ولد محجوب”). وكان النظام، وفق المعلومات والمعطيات، قريبا من تحقيق “فرجة تاريخية” كانت ستشكل بداية “عهد العناق” الحار والأبدي بين مكونات شعب هش ظل في أمس الحاجة إلى فرو يقيه لفح الهزات العرقية والحروب الأهلية.
لكن شيئا ما حدث داخل أروقة القصر الداكن، فتراجع النظام عن تعهداته وعاد إلى عرصات الأولين، تاركا لنقاط الاستفهام حرية التشكل في أي اتجاه تختاره: هل رضخ النظام لضغوطات القوى التقليدية التي ترفض تفكيك الواقع الاجتماعي والإثني لصالح ماض متغول، متجبر، متحجر، عنيد وكنود؟ هل حسب النظام أن إبقاء إيرا على طبيعتها يعد بمثابة عفريت مهم لتخويف مجتمع تقليدي غير مأمون؟ لا نحن فهمنا، وربما لا هو فهم الأسباب الحقيقية.
أما بالنسبة للعدو الثاني (مجتمع البيظان) فهو مدعو، بصدق يؤكده الواقع المتفجر، إلى تغيير نظرته تجاه المنظمات الحقوقية، والسعي لمساندة مطالبها. كما أنه مطالب بأن لا يجعل من نفسه هدفا لسهام المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، وأن يغير من نظرته النمطية للتراتبية الاجتماعية، وأن يغير من موقفه المتعنت أمام التغيير، وأن يقبل بتغيير ثقافة الاستعلاء والمكابرة، وأن يحرق فيه حشائش التمسك الأعمى بأصنام الإرث المتخلف، وأن يقرأ المستقبل قراءة موضوعية، وأن يستعد لبناء دولة المواطنة، وأن يمهد الأرضية للسلم والمؤاخاة، كما أنه مطالب بأن يفهم أنه استفاد من فوضوية الماضي وهو أول المستفيدين من عدالة المستقبل، وأن أي انفلات أمني أو مواجهة عرقية لن تكون في صالح أحد، وأن إشراك الآخرين في السلطة والثروة هو صمام الأمان أمام المنزلقات الخطيرة، وأن روح المحبة تحت ظل علم واحد أفضل من روح البغضاء تحت أعلام شتى، وأنه ثمة دوائر وبلدان لا تنتظر غير يوم الصدام المشؤوم كي تبرر للعالم احتلالنا، والبطش بنا، وتسليح بعضنا ضد البعض، والتلاعب بمقدراتنا، واستنزاف خيراتنا “في انتظار نتائج مؤتمر جنيف الدولي”.
أما على مستوى إيرا، فإن عليها أن تدرس استراتيجية جديدة واضحة قائمة على ثلاثة أبعاد: سلمية العمل، تطمين البيظان، تعميم النضال.
أولا: سلمية العمل
لعليّ أحد أعرف الناس بالرئيس بيرام ولد الداه ولد اعبيد. عايشته عن قرب، خاصمته كثيرا، مازحته كثيرا، سافرت معه، ناقشته، غاضبته، ساندته، انتقدته… وبالتالي لا أحد يمكن أن يؤكد أكثر مني أنه أكثر الناس وأفضلهم استماعا، بل إنصاتا لرفاقه، خاصة إن كانوا بصدد تقديم النصائح والإفصاح عن المآخذ. آخر مرة احتكرت فيها أذن بيرام كانت في خضم اعتصامات بتلميت. قلت له، ونحن فوق منزله بالرياض: أخي الرئيس، هناك فرق جلي بين حركات التحرر والحركات الحقوقية. فالأولى قد تسعمل العنف، وحتى الاغتيالات، لتحقيق أهدافها، أما الثانية فسلمية لدرجة أنها تمد الخد الثاني لمن صفع الخد الأول.
لقد رأيت بأم عيني شبابا من إيرا يستخدمون العنف الجسدي ضد أناس في بتلميت بشكل مقزز ومتناقض مع رسالتنا. وإن عليك أن توضح لنا اليوم ما إذا كنا حركة تحرر أم حركة حقوقية، فإذا كانت إيرا حركة تحرر فإنه من حقنا أن نختار بين النضال فيها أو التخلي عنها. فنحن لا يمكن أن نواصل النضال في حركة لا نعرف هويتها. قال لي ما مضمونه أنه في كل المؤتمرات والندوات الدولية، وفي كل الاجتماعات العامة والخاصة، كان يعبر بصراحة عن سلمية نضالات إيرا، وقال بأن حركته لن تحمل أبدا عصا أو سكينا أحرى بندقية، وأنه إن قدر الله حربا أهلية هنا فسيكون هو أول متبرئ منها، وأن على إيرا، من الآن فصاعدا، أن تعيّن لكل اعتصام أو مهرجان شخصا من قادتها يكون مسؤولا عن مراقبة سلمية التظاهرة ومسؤولا عن تحسيس الشباب وتحريضهم على السلمية واللاعنف والهدوء.
إن على إيرا – وهي المتيمة بالنهج اللوثركينغي- أن تجعل من فحوى هذا النقاش أساسا لخطة جديدة تقوم على النضال الدائم باللسان الطيب والفكر البناء والقلم الناضج، وأن تـُعد ورشات وأياما تفكيرية داخلية تعبئ خلالها الشباب على نبذ العنف والتحلي بأخلاق كبار الحقوقيين في العالم؛ خاصة أن جهود هؤلاء أعطت للشعوب من الثمار ما لم تعطه جهود الملاكمين (وهل ثمة مقارنة بين لوثر كينغ ومايك تايزن؟). ولعل إيرا بحاجة – لصقل رئتها بأكسجين نقي- إلى خلق جيل يعشق العدالة، ويسعى لتحقيقها مبتسما، ناثرا ريش الحمام بدل أشواك القتاد؛ عسى يفتح أبواب قلوب الذين يرون فيها العدو المتربص بهم، المضمر إفناءهم.
ثانيا: تطمين البيظان
إن على إيرا أن تجعل من أولوياتها إفهام البيظان أنهم غير مستهدفين كعرق، وإنما كأفراد وجماعات ما زالت تمارس الظاهرة المشينة، وأنها لا تجرم كافة المنحدرين من هذا المجتمع، وإنما أولئك الذين يرفضون التخلي عن ممارسة الرق (المباشر أو غير المباشر).
وإن من مصلحة النضال الإيراوي أن يتوقف عن نبش القبور ويتوجه إلى الحاضر والمستقبل عله يستميل بعض الفعاليات والأشخاص الخيّرين النشطين من مجتمع البيظان القادرين على دفع الأمور إلى الأمام ماديا ومعنويا وثقافيا وسياسيا وواقعيا.
لقد قال لي بيرام ذات مرة ان الحركة تمد للبيظان يد التعاطي والتعاون.
وفي هذا الصدد طلبت منه مرة أن يتركني، وأحد الأصدقاء، نقوم بالاتصال بالعلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو لتنقية الأجواء والاعتذار عما بدر تجاهه. فقبل الأمر بسرعة فائقة، بل أكد ضرورة القيام بذلك. وطلبت منه في نفس الوقت قبول وساطتي لإعادة ترميم علاقته بالمناضل الكبير الزميل أحمد وديعه، فقبل أيضا دون أية شروط. ورغم أن أجندات “تكنت- المذرذره” ما زالت تحول دون ذلك، إلا أن تفهــّم الرجل أعطى الانطباع بأنه يسعى جديا لوقف التشنج الحركي وتقليل نسبة الأعداء وبناء علاقات جديدة قائمة على أسس سليمة. أعود هنا لأقول ان السيد بيرام اعترض على هذه الفقرة من المقال، مؤكدا أنه لم يكلفني أبدا بهذه المهة، وأنه لم يفعل للسيدين المذكورين ما يستوجب الاعتذار، لذلك تراجعت – للأسف- عن القيام بخطوة ملموسة في هذا الاتجاه.
ثالثا: تعميم النضال
لا يمكن فهم اقتصار النضالات ضد العبودية على مجتمع البيظان إلا من زاويتين: إما أنه يعني أن البولار والولوف والسونينكي ليسوا موريتانيين، وهذه طامة كبرى وتهمة عنصرية نحن منها برءاء، وإما أن هناك نية واضحة لاستهداف شريحة البيظان، وهذه طامة أخرى وتهمة يجب رفع اللبس عنها.
إن تحاشي شجب العبودية والطبقية والتراتبية الاجتماعية لدى مجتمعات الزنوج الموريتانيين يجعل البعض محقا في اعتبار إيرا “أداة لدى الحركات الزنجية المتطرقة لتصفية الحسابات مع البيظان، باستخدام مأساة وجرأة الحراطين”.
ومن الواضح أنه يصعب فهم توافد الحركيين الزنوج بكثرة على إيرا على أنه من أجل سواد أعين عبيد البيظان، فيما لم يسعوا أبدا إلى المطالبة بالتظاهر لصالح الأرقاء أو الطبقات الزنجية المسحوقة. تلك هي ورطتنا في إيرا؛ إذ لم نتمكن بعد، رغم محاولات التمويه، من توضيح الفرق بين العبوديتين لدى العرقين، وما إذا كانت ثمة عبودية رحيمة في تاريخ العالم. إن لضحايا الطبقات المسحوقة في مجتمع الزنوج حق علينا باعتبارهم إخوة في الدين والوطن.
وإذا لم يكن في الأمر استغلال سياسي مبطــّن، فإن على إيرا، وزنوجها في المقام الأول، أن يؤازروا عبيد الزنوج وأن يشجبوا تراتبيتهم الاجتماعية المهيكلة وما يعانون من إقطاعية يعرف أخي بالا توري كم هي فظيعة نتنة، وإلا فإن من ينتقدون الحركة باعتبارها “وسيلة لضرب البيظان، ليس إلا”، سيكونون على حق، خاصة أن إيرا تتحدث في كل مناسبة عن أحداث التسعينات العرقية ومقابر إينال والعزلات (المشجوبة والمأسوف عليها)، تاركة حبل عبودية الزنوج على غاربه لأسباب جد غريبة. إن على إيرا أن تدافع بإخلاص واستماتة وجدية وسلمية عن كافة عبيد موريتانيا سواء كانوا من مجتمع البيظان أم من مجتمع الزنوج؛ فالعبودية عبودية أينما وجدت، والظلم لا يتغير معناه بتغير اللون الممارس له.
وكما تعودت إيرا أن تطلب من أحزاب البيظان أن تجعل من العبودية أولوية، عليها أيضا أن تسأل صار إبراهيما وكانْ مامادو عن أسباب غياب العبودية في مجتمعاتهم عن خطاباتهم وبرامجهم السياسية.
لست هنا للدفاع عن البيظان، والإيراويون أكثر الرفاق دراية بحسي الجمعوي البعيد من العنصرية، الكاره للميز، المناضل ضد الإثنية الضيقة مقال “تاريخ الزنوج الموريتانيين ضارب في القدم” خير دليل.
لكن سرمدية النضال ضد العبودية داخل عرق واحد من مكونات الشعب الموريتاني، شكلت لإيرا إحراجا لم تزل تتخبط في وحل العجز عن تبريره، خاصة أن الباحثين والأساتذة والمثقفين في الحركة يعرفون أن البيظان ليسوا وحدهم المسؤولين عن العبودية أصلا، فملوك فوته (من نبلاء البولار) شكلوا أهم المتعاونين مع تجار الرقيق البيظان والأوربيين على حد سواء. وكان الملوك الألماميون الزنوج أكبر مصادر الأوربيين من العبيد في مرافئ سان الويس، كما كان بعض أمراء الوالو من الولوف يدفعون لأمراء الترارزه عبيدا بدل إتاوات الحبوب.
ويعرف مثقفو إيرا أكثر من غيرهم أن طبقة سيبي (المحاربة)، وطبقة توروبي (الزوايا) وطبقة جاوانبي (المستشارة) وطبقة سيبالبي (أسياد الماء)، من مجتمع البولار، ما تزال حتى يومنا هذا تـَسحق وتـَـستغل وتسترق طبقات مابوبي (النساجين) وطبقة اييلبي (صاغة الذهب) وطبقة ساكيبي (الدباغين) وطبقة لاوبي (ممتهني الصناعات الخشبية) وطبقة بورنابي (الخزافين) وطبقة آولوبي (الهزاجين)، وطبقة توروبي (مداحي الزوايا) وطبقة وامبابي (العازفين) وطبقة لاوبي كومبالا (مداحي المحاربين) وطبقة ماوبو سودو باتي: (حاشية الفلان) وطبقة سوتيبي (العتقاء)، وطبقة ماكوبي وهالفابي (العبيد).
كما يعرف مثقفو المنظمة أن طبقة كيرْ في مجتمع الولوف كانت وما زالت تطحن طبقة جامبور (المواطنين، الفلاحين في الغالب) وطبقة نول (المهرجين الخَـدَم) الذين يرجع أصلهم – حسب إحدى أشهر أساطير الولوف- إلى زواج بين رجل ميت وامرأة حية. لذلك يحرم بتاتا على أي شخص ينحدر من الطبقات الأخرى أن يتزوج في هذه الطبقة المخوفة داخل الذاكرة الجمعوية.
نفس الحيف يمارس في مجتمع الولوف على طبقة انيينيو (الحرفيين) وكل فئاتها: فئة التيك أو بالا ميسا: (الحدادين)، وفئة لاوبي (حرفيي الخشب)، وفئة وودي (حرفيي الجلود)، وفئة الراب (النساجين)، وفئة غيويل (المطربين). كما يمارس الحيف الولفي وبشكل أفظع على طبقة العبيد (جام) وكل الفئات المتفرعة عنها: جام بور (عبيد القصور المرتبطين بالأسر الأميرية)، جام جدو (عبيد الأكواخ الذين يملكهم الجميع)، جام سايور (العبيد المنحدرين من أسرى الحروب).
كما يعلم مثقفو المنظمة أن طبقة الهورو والموديني، المحاربين والزوايا في مجتمع السونينكي، ما زالت تسحق وتقصي طبقة الـ “نياخامالاني” (المطربين والحدادين) وطبقة الـ”كومو” (العبيد)، وطبقة “ديونكورونكو” القريبة فئويا منها.
كما يعلمون أن امرأة من طبقة “الكومو” السونينكية (في يومنا هذا)، إذا ما مات زوجها، تكون عدتها نصف عدة امرأة من الطبقات النبيلة.. ولا أحد يتكلم.
إن بناء ثقافة المواطنة يتطلب إشراك وترقية وتحرير طبقات آزناكه ولمعلمين وإيكاون ولحراطين والعبيد في مجتمع البيظان، لكنه يتطلب أيضا إشراك وترقية وتحرير الطبقات المسحوقة آنفة الذكر في مجتمع الزنوج، وإلا فمكاييل عدل المنظمة وموازين قسطها ستظل تعيش مفارقة غريبة (محاربة العنصرية وممارسة العنصرية).
ومجمل القول أن على البيظان أن يتوبوا من جرم الاسترقاق وأن يكـيّفوا أنفسهم مع واقع جديد لا مكان فيه للتهميش. وإن عليهم أن يناضلوا جنبا إلى جنب مع إخوتهم الحراطين في سبيل استرداد حقوقهم؛ فذلك أضمن لمستقبل خال من الهزات يستطيع فيه الكل أن يصفح عن الكل استعدادا لمسيرة تنموية وطنية مفروشة بالزهور.
وإن على النظام أن يـُسكت أغانٍ ممجوجة كـ”المؤامرة والعمالة لإسرائيل” لأنها لا تستطيع إيقاف عجلة التاريخ، وإن عليه – بدلا من ذلك- أن يفكر في حل معضل التعايش السلمي جديا وتشاوريا بما يضمن السلم الدائم والعيش الكريم للمكونات الوطنية. وإن على إيرا أن تعتمد أسلوبا أكثر سلمية، وأن تصدر إشارات تطمين واضحة لمجتمع البيظان، وأن يتساوى في نضالها عبْد البيظان مع عبد الزنوج؛ لأنهما ضحيتان لنفس الظاهرة ولأنهما مواطنان من نفس البلد ولأن نفس المبادئ التي تجعلنا نرفض ممارسة العنصرية ضد الزنوج، تدفعنا أيضا لرفض ممارسة العنصرية ضد البيظان.
يجدر الذكر أن السيد بيرام، الذي اطلع على هذا المقال قبل نشره، قال بأنه من غير المنطقي، في تلك الفترة بالذات، أن نجلد المنظمة في وقت تتقاطر عليها فيه الجوائز والتكريمات الدولية وما يرافقها من نجاحات ومكتسبات وطنية، لذلك لبيت طلبه وقررت عدم نشره حينها. لكن فحوى هذه المعالجة، المتعلقة بمفارقة إغماض العينين عن مجتمع، وفتحهما جاحظتين على مجتمع آخر، تعتبر مسؤولية كبيرة يجب الإفصاح عنها للتاريخ، وإن كنت أربأ بنفسي عن أي فهم لهذا النص يحيل إلى العنصرية أو الانحياز للبيظان على حساب الزنوج، بل يتعلق الأمر فقط بمحاولة مساواة العرقين في الدفاع عن طبقاتهما المظلومة ومساواة عبيدهما وفئاتهما المسحوقة ووضعها، كلها وبالتساوي، في نفس المساحة من دائرة الضوء الحقوقي.
أما إذا تعلق الأمر بملفات حقوق الانسان القديمة، وبالسياسة وما ينجر عنها من غبن لإخوتنا الزنوج، فثمة موقف صريح عبرت عنه، بالقول والفعل، منذ مأساة 89، مرورا بتصفيات 90-91، وصولا إلى قانون العفو البرلماني المصادق عليه سنة 1994 الذي اتصلت بشأنه بالعلامة المرحوم الإمام بداه ولد البوصيري، موفدا من جريدة “القلم”، وتناولت معه موضوعه في حديث إيجابي شيق أكد في مستهله أنه لا يقابل الصحافة أبدا، وأنه لاعتبارات معينة، لا داعي لذكري لها، سيقبل، على غير عادته، بلقاء بيننا حول الموضوع، لكنْ خارج إطار النشر.
وأتذكر، بالمناسبة، أن العلامة مازحني قائلا إنني إن نشرت في الصحافة فحوى لقائنا فسوف يجرحني علنا على منبر الجمعة، وقد تعهدت له بعدم نشره ووفيت بعهدي.. تغمده الله بواسع رحمته.