إلى العلياء في كنف الرحيم (1) / محمدٌ ولد إشدو
عندما اعتقلني العسكر المنقلِب في مثل هذه الأيام من فبراير 1980، كان أغلى إنسان علي يحتضر: جدتي ميمونة بنت الغوث رحمها الله؛ وحين لم ترني إلى جانبها، أخذت تسأل عني بقلق، وقلب الأم يحدثها بمكروه، فاختلقوا لها كل الذرائع! ولما توفيت – رحمها الله- كنت وزميلي الأستاذ التجاني ولد كريم رئيس المجلس الأعلى لشباب حزب الشعب، في زنزانات إدارة أمن الدولة قبل نفينا إلى تيشيت.. فكتبت في رثائها شعرا مطلعه وختامه: إلى العلياء في كنف الرحيم!
كان الوطن يومئذ في منزلق على كف عفريت.. فلقد عصفت حرب الصحراء العبثية الغادرة بربيع سقيناه بدمائنا ودموعنا. ثم جاء انقلاب العاشر يوليو العشائري فأتى على الأخضر واليابس. واستهدفت آلة قمعه الوحشي رموز السلطة الوطنية، والكادحين الذين رفضوا الانقلاب وحكم الجيش، وعارضوا الصلح المنفرد في الصحراء والانسحاب الأحادي منها، ونددوا بسيطرة جناح بوليزاريو في الجيش على موريتانيا وقاوموه!
لم يسمح لأحد بزيارتي رغم الفاجعة! ومع ذلك كان التعاطف معنا واسعا، وظلت قلوب الشعب تكلؤنا! ومن بين من تعاطفوا معي في محنتي وحزنوا لمأساتي رفيقة عزيزة وشجاعة ومثقفة وأديبة ظلت – حسب ما روت لي أختي أم الفضل- تردد البيت الأخير من مرثية جدتي؛ وهو بيت جمع بين مطلعها وصدر آخر بيت منها، وهذا نصه:
وداعا أيها الثاوي بعيدا ** إلى العلياء في كنف الرحيم
لم أدرك يومها، سبب استعذاب تلك المناضلة الأديبة لهذا البيت بالذات! ولكن ها أنا ذا أدركه بعد حين من الدهر، حين لم أجد اليوم عنوانا أنسب ولا أبهى ولا أصدق في تأبينها منه!
الأستاذة السالكه بنت اسنيد في ذمة الله! لقد وصفوها بالإعلامية البارزة، والصحفية المميزة، والأديبة الكبيرة، وذاكرة جيل تولت، وأم أسرة وبنت أخريات من أنبل وأكرم وأعز هذا المجتمع! وهذا كله صحيح!
ولكن.. هل تعبر هذه الصفات عن هوية ومجال موصوفها؟ أولا تخشون أن ترفع الفقيدة في وجوهكم إشارة اعتراض، وتنشد بيتا غير غريب عليها فتقول:
هل لهذا الوجود معنى إذا لم ** يتبين هويتي ومجالي؟
فما هي هوية الأستاذة السالكه بنت اسنيد، وما هو مجالها؟
هذه بعض عناصر الجواب:
عندما أعلن استقلال موريتانيا فجر الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1960 في نواكشوط لم يكن يوجد ما يدل دلالة قطعية على قيام دولة واستقلال وطن؛ اللهم إلا إذا كان وضع حجر أساس العاصمة الذي جرى قبل ذلك بنحو ثلاثين شهرا لم ينجز خلالها تقدم يذكر على الأرض، سوى بضع ورشات بناء متواضعة متناثرة. تقاطرت الوفود، يومئذ على صحراء جرداء، وغادرها الجميع (بمن فيهم المسؤولون الموريتانيون) نفس اليوم أو الذي يليه؛ تاركا إياها كما هي.
كان كل شيء بيد فرنسا، ما عدا إرادة الرعيل الأول الراسخة في جمع الشمل، وإنجاز الاستقلال السياسي، وبناء دولة بما تيسر. وتجلت ملامح تلك الإرادة واضحة في مؤتمر ألاگ، وفي سياسات أخرى مثل سياسة التقشف!
وكانت حكومة موريتانيا والمصالح الجنينية التابعة لها ما تزال يومئذ جاثمة في مدينة سان لويس السنغالية. وكنا عالة في كل شيء على فرنسا والسنغال، ومهددين في وجودنا من طرف المملكة المغربية التي تعتبرنا جزءا لا يتجزأ منها، وكانت أغلبية شعبنا الساحقة بداة رحلا يعيشون خارج التاريخ، والإمكانيات شبه منعدمة؛ لحد أنه لا يوجد في أرضنا الشاسعة كيلو متر واحد معبد! والعرب – إلا تونس- يجفوننا ويقاطعوننا إرضاء للمغرب!
ولما أصرَّ الرئيس المختار – رحمه الله – على الانتقال بما لديه إلى نواكشوط، وهي واد غير ذي زرع، كانت نواة الدولة التي جلب معه عجمية تماما، وخاضعة في كثير من شؤونها لسيطرة قاطن القصر الغربي الآن! وبالتالي متناقضة تناقضا موضوعيا حادا وعدائيا مع المجتمع العربي الإسلامي البدوي العالِم، صاحب الأرض التي أقيمت عليها، وصاحب المصلحة من جهة؛ ومع إرادة التحرر العاتية التي تجتاح العالم يومئذ من جهة أخرى!
أما المعارضة الموريتانية التي من سماتها الجوهرية التليدة بطء فهم واستيعاب المستجدات السياسية، فقد انقسمت بعيد إعلان الاستقلال – الذي شككت فيه وقاومته- إلى فريقين حاور أحدهما النظام الجديد والتحق به حارقا سفنه، والتحق الثاني بالمغرب وتبنى الإرهاب نهجا لتحقيق أهدافه. فأصبحت البلاد بلا معارضة! وكنا نصطف في حلف الاتحاد الإفريقي الملغاشي الدائر في فلك فرنسا!
وكانت صرخة الرئيس جمال عبد الناصر الداعية إلى الحرية والاشتراكية والوحدة تدوي في جميع أصقاع العالم رغم انهيار أول وحدة عربية رائدة بين مصر وسوريا، وما نتج عن ذلك من إحباط. وحديث محمد حسنين هيكل الأسبوعي “بصراحة” هو خبز المثقفين الفكري في أرجاء الوطن العربي؛ بمن فيهم نحن، كل جمعة!
وتوالت انتصارات الثورة الجزائرية، وتكلل زحفُ الزعيم أحمد بن بله ورفاقه على الجزائر العاصمة بالنجاح.
وكلمات الشيخ محمد سالم بن عدود رحمه الله تسبي العقول وتستنهض الهمم وتشحذ الإرادات:
كفى حزنـــا أن لا نـزال يقودنــا ** إلى الخسف داع من دعاة جهنما
وفي شيعة الدجال نمشي وحزبه ** وأسرتنا جند المسيح ابن مريمـا
فيا عجبا من كافر قاد مسلمــــا ** ومن عربــي شاقه صوت أعجما.
لا بد إذن من تغيير هذا الواقع المهين؛ ولكن كيف؟
يومها كان عمر السالكة بنت اسنيد اثنتي عشرة سنة.
كنا قلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة! ولما قررنا تنظيم مظاهرة في 15 مايو 1964 نصرة لفلسطين، انطلقت من دار الشيخ محمد سالم ولد عدود، لم تكن من بيننا امرأة واحدة!
واحتدمت ثورة التعريب وصيانة الهوية والوحدة الوطنية، فبدأت المرأة الموريتانية من خلالها “تتطفل” على السياسة والثقافة والوظيفة من زاوية محيطها الأسري، وعن طريق فصول محو الأمية الوليدة، وانطلاق تمدرس البنات!
وأغلق الرئيس جمال عبد الناصر مضيق تيران وأعلن التعبئة في مايو 1967 فخرجت تحت راية الناصرية وحركة القوميين العرب مظاهرة دعم وتأييد شاركت فيها – لأول مرة- ثلاث سيدات وفتاة قاصر، هن: أخت البنين وخديجة ابنتا لبات، وفاطمة بنت عابدين، والسالكة بنت اسنيد!
يتبع