كورونا… قراءة في إدارة الأزمة سعودياً
الموريتاني : على صعيد برامج الصحة العامة، تم تنفيذ كثير من البرامج والأنشطة، مثل: الحملات الصحية التثقيفية، وحملات تعزيز الصحة؛ حيث شهدت تفاعل أكثر من 3 ملايين مستهدف، وغطت كثيراً من الموضوعات الصحية المهمة
* في ضوء حجم المخاطر التي أوجدها مرض كورونا وتداعياته التي تتزايد يوما بعد يوم، اتخذت المملكة حزمة من السياسات والإجراءات الهادفة إلى مواجهة هذا المرض وفقا لقاعدة الوقاية خير من العلاج
* تعليق التأشيرات الممنوحة لأغراض أداء العمرة وزيارة المسجد النبوي والسياحة، مع إخلاء ساحات الطواف لحين تعقيمها وتطهيرها حماية لزوار الأماكن المقدسة
باكو: في عالم يموج بالتحولات والتقلبات والتغيرات المستمرة والدائمة، وفي خضم الترابط الدولي والتشابك الإقليمي، لم يعد من السهولة بمكان التعامل مع القضايا الداخلية أو الوطنية على غرار ما كان سائدا فيما سبق، فما كان يعتبر من الشؤون الداخلية أضحت له تأثيرات خارجية كما أن عليه مؤثرات من الخارج، إذ إنه في السابق كان ينظر إلى القضايا الداخلية مثل قضايا حماية البيئة ومحاربة الأمراض المعدية وكأنها شأن داخلي يحتاج إلى مجرد المساعدة والتعاضد وقت الأزمة فحسب، إلا أن الأمر تغير في ظل انفجار ثورات المعارف والمعلومات والمواصلات والاتصالات التي جعلت حادثا يقع في أقصى الكرة الأرضية يصل إلى طرفها الآخر في ذات الوقت، الأمر الذي تطلب رؤية مغايرة في التعامل مع مثل هذه القضايا التي أضحت قضايا عالمية وليست محلية أو إقليمية.
في ضوء ذلك يأتي النظر إلى فيروس كوفيد-19، أو ما يعرف إعلاميا بفيروس كورونا الذي ظهر في الصين مؤخرا وانتقل بسرعة كبيرة إلى مناطق كثيرة من العالم، وتجاوزت ضحاياه عالميا ما يقرب من الأربعة آلاف حالة وفاة إلى جانب الآلاف من حالات الإصابة، بعضها تم شفاؤها والبعض الآخر لا يزال في حالة العلاج أو الاشتباه. صحيح أن منظمة الصحة العالمية لم تعلن حتى كتابة هذه السطور أن هذا المرض وباء عالمي إلا أنها تصدت له عبر مؤتمراتها شبه اليومية التي يعقدها مديرها العام للوقوف على تطورات المرض وانتشاره وكيفية مكافحته من خلال استمرار المنظمة في إعطاء المشورة للدول والأفراد بشأن تقويم المخاطر وإدارتها لتمكنهم من اتخاذ قرارات، بناء على معلومات وتحليلات موثوق بها.
تلك المقدمة تعطي صورة للواقع الراهن فيما يجب أن تكون عليه إدارة الحكومات لبعض الملفات الداخلية ذات العلاقة التأثيرية أو الارتباطية مع الخارج، على غرار الملف الصحي أو البيئي، وهو ما يعني أن إدارة الملف الصحي في أي دولة يجب أن تراعي بعدين أساسيين، هما: الأول، بعد منهجي كلي بمعنى أن يكون لدى الدولة الرؤية لما يجب أن يكون عليه قطاع الصحة، وهو ما يستوجب دراسة تحليلية للواقع الصحي في هذه الدولة ومقوماته ومخاطره وتحدياته ووضع الرؤى والاستراتيجيات القادرة على مواجهة هذه التحديات. أما البعد الثاني، فيتمثل في كيفية إدارة أزمة صحية طارئة سواء كان مصدرها داخليا أم خارجيا، مع الأخذ في الحسبان أن إدارة الأزمة الصحية الداخلية تكون أسهل من إدارتها إذا كان مصدرها خارجيا كما هو الحال في الأمراض التي تنتقل من دولة إلى دولة أخرى على غرار فيروس كورونا.
في ضوء كل ما سبق يمكن رصد السياسة السعودية في إدارة ملفها الصحي، وفقا لهذين البعدين على النحو الآتي:
أولا: المملكة والرؤية المستقبلية 2030 وإدارة ملف الصحة العامة
حرصت المملكة على أن تتضمن رؤيتها المستقبلية 2030 بعداً مهماً يتعلق بالملف الصحي، إدراكا بأن أحد أهم مرتكزات نجاح هذه الرؤية هو الاهتمام بصحة الإنسان بشكل أفضل. ولذا، فقد أكدت الرؤية على أهمية تأسيس نظام صحي متين وفعال يبدأ من تفعيل الطب الوقائي للحد من انتشار الأمراض، وتعزيز الصحة العامة، وتغيير أنماط المعيشة غير الصحية. وتطبيقا لهذه الرؤية سعت وزارة الصحة السعودية إلى العمل على استحداث نظام صحي يستوعب الاحتياجات الصحية الحالية والمستقبلية للمملكة، فتم طرح نظام صحي جديد مبني على أسس غير تقليدية في طريقة تمويله وإدارته وتقييمه وتطويره، تمثلت أبرز مكوناته في مأسسة هذا النظام، وإعادة صياغة طريقة تمويله لتكون مستقلة ومرنة بحيث لا تعتمد على نظام الميزانيات؛ بل على معايير الدفع مقابل الخدمة؛ سعيًا إلى رفع فاعلية ما يبذل بها من مال وجهد، وهو ما مكنها من تحقيق حزمة من الإنجازات في القطاعات الصحية وخدماتها المختلفة، من أبرزها ما يأتي:
– على مستوى الرعاية الصحية الأولية، تم افتتاح أكثر من 80 مركز رعاية صحية أولية في مختلف أنحاء المملكة، ليزيد عددها على أكثر من 2.390 مركزًا صحيًّا قدمت خدمات الرعاية الأولية، والتحصينات، والتعامل مع الأمراض المزمنة، ورعاية الأمومة والطفولة لأكثر من 52 مليون مراجع، كما زاد عدد المراكز الصحية التي تعمل لمدة 16 ساعة بنسبة 100 في المائة، ليصبح عددها 152 مركزًا صحيًّا تعمل بالنظام الممتد، وجنبًا إلى جنب هنالك 498 مركزًا صحيًّا تعمل بنظام الاستدعاء، كما زاد عدد المراكز الصحية التي تقدم الرعاية العاجلة بنسبة 50 في المائة لتصبح 107 مراكز. كما تمت مضاعفة أعداد عيادات الإرشاد لتقديم الرعاية النفسية الأولية لتصبح 55 عيادة موزعة في مختلف مناطق المملكة، كما تمت إضافة العيادات الاستشارية في 82 مركزًا صحيًّا في مختلف مناطق المملكة، وكذلك زاد عدد عيادات مكافحة التدخين بنسبة 160 في المائة، وبلغ عددها الآن 160 عيادة. كما حصل 55 مركزًا على شهادة الاعتماد لمعايير الجودة الطبية من مجلس اعتماد المنشآت الصحية. وفي هذا الخصوص أيضا تم إطلاق مشروع المسح الصحي السكاني الذي يستهدف نحو 50 ألف أسرة في مختلف مناطق المملكة، ويهدف إلى تكوين قاعدة معلومات دقيقة عن الوضع الصحي بالمملكة وذلك بمشاركة 9.300 من الطواقم الطبية والصحية بالمراكز الصحية.
– على صعيد برامج الصحة العامة، تم تنفيذ الكثير من البرامج والأنشطة، مثل: الحملات الصحية التثقيفية، وحملات تعزيز الصحة؛ حيث شهدت تفاعل أكثر من 3 ملايين مستهدف، وغطت الكثير من الموضوعات الصحية المهمة، مثل: حملات السكري، وحملة الكشف عن سرطان الثدي، وسرطان القولون، والملاريا، والأنفلونزا، والكلى، والدرن، والقلب، والتهاب المفاصل، وهشاشة العظام، والمضادات الحيوية، والإيدز، وغيرها، كما بذلت الوزارة جهودًا كبيرة ومميزة لتطوير آلية عمل 937 مركز، حيث تم تقديم أكثر من 100 ألف استشارة صحية، بالإضافة إلى أكثر من 15 ألف استشارة صحية عبر منصات التواصل الاجتماعي.
– في مجال الخدمات العلاجية، يوجد أكثر من 279 مستشفى تضم أكثر من 42 ألف سرير؛ حيث تستقبل عياداتها الخارجية أكثر من 16 مليون مراجع سنويًّا، فيما تستقبل أقسام الطوارئ أكثر من 18 مليوناً من حالات الطوارئ المرضية و21 مليوناً من حالات طوارئ الإصابات، كما أجريت في مستشفيات (الصحة) أكثر من 500 ألف عملية جراحية، وأكثر من 240 ألف حالة ولادة، ويضاف إلى ذلك ما تم تحقيقه من إنجازات في برنامج الفحص المبكر لحديثي الولادة؛ إذ إنه خلال الأربع سنوات الأخيرة تم الكشف على 720 ألف حالة، تبين خلالها أن هناك 622 حالة تحتاج إلى تدخل علاجي، كما تم ارتفاع نسبة فحص السمع بنسبة 89 في المائة، ونسبة فحص القلب للمواليد بنسبة 90 في المائة، وهذه الإنجازات ليست وحدها فحسب؛ بل هناك إنجازات أخرى ركزت على رفع كفاءة التشغيل وتطوير الأداء الإداري وبيئة العمل، بالإضافة إلى تطوير وتأهيل الكوادر بمختلف تخصصاتها وفئاتها، وأن العمل مستمر ومتواصل لمواكبة الاحتياج المتزايد إلى خدمات الرعاية الصحية كمًّا وكيفًا.
ثانيا: المملكة ومرض كورونا… إدارة الملف بمقاربة جديدة
في ضوء حجم المخاطر التي أوجدها مرض كورونا وتداعياته التي تتزايد يوما بعد يوم، وحفاظا على صحة المواطنين والمقيمين، اتخذت المملكة ممثلة في وزارة الصحة وبالتعاون مع الوزارات والهيئات الحكومية المختلفة حزمة من السياسات والإجراءات الهادفة إلى مواجهة هذا المرض وفقا لقاعدة الوقاية خير من العلاج. كما أعدت كافة التجهيزات والترتيبات المتعلقة بعلاج الحالات المصابة، وهو ما يمكن رصده فيما يأتي:
– تعليق التأشيرات الممنوحة لأغراض أداء العمرة وزيارة المسجد النبوي والسياحة، مع إخلاء ساحات الطواف لحين تعقيمها وتطهيرها حماية لزوار الأماكن المقدسة.
– قصر الدخول إلى المملكة مؤقتًا للقادمين من كل من الإمارات والكويت والبحرين على المنافذ الجوية في مطارات الملك خالد الدولي بالرياض، والملك عبد العزيز الدولي بجدة، والملك فهد الدولي بالدمام. وأن المرور سيكون عبر المنافذ البرية بين المملكة وتلك الدول للشاحنات التجارية فقط، على أن تتخذ وزارة الصحة جميع الإجراءات الاحترازية اللازمة في المطارات المشار إليها، وكذلك حيال سائقي تلك الشاحنات ومرافقيهم في المنافذ البرية، حيث يبدأ تطبيق هذه الإجراءات بدءًا من السابع من مارس (آذار) 2020.
– على جميع من يرغب في القدوم إلى المملكة بموجب تأشيرة جديدة أو تأشيرة سارية المفعول، من أي دولة ظهر فيها خطر انتشار فيروس كورونا- وفق القائمة المعتمدة من الجهات الصحية المختصة في المملكة العربية السعودية- أن يقدم شهادة مخبرية PCRتثبت خلوه من الإصابة بفيروس كورونا الجديد. ويسري ذلك على من أقام في تلك الدول خلال الـ(14) يومًا السابقة لدخوله المملكة. وأنه على الناقل الجوي التأكد من سلامة الشهادة المخبرية، وأنها حديثة وصادرة خلال الأربع والعشرين ساعة السابقة لصعود المسافر إلى الطائرة. على أن تقوم السفارات السعودية في الدول التي ظهر فيها خطر انتشار فيروس كورونا بتحديد مختبرات محددة معتمدة من المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها. واستثنى من ذلك الحالات الإنسانية والاجتماعية بناءً على ما تراه وزارتا الداخلية والصحة.
– قرار وزارة الرياضة بتعليق حضور الجماهير جميع المنافسات الرياضية في كافة الألعاب، بدءًا من السابع من مارس 2020 حتى إشعار آخر، على أن تُجري مراجعة لقرارها على نحو مستمر بالتعاون مع بقية الجهات المعنية.
– اتخاذ وزارة التعليم حزمة من الإجراءات الاحترازية للوقاية من انتشار الفيروس، وذلك من خلال التعاون مع وزارة الصحة، شملت ما يأتي: إبلاغ جميع إدارات التعليم بآلية إجراءات قبول الطلاب العائدين من جمهورية الصين الشعبية والدول التي انتشر فيها الفيروس، والإجراءات الواردة من المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها في وزارة الصحة (وقاية)، وعقد لقاء مع القيادات الميدانية في وزارتي التعليم والصحة، وإصدار نشرات توعوية معتمدة من الجهات الصحية على هيئة تصاميم، وأفلام تعريفية وتوعوية، وتزويد إدارات التعليم بأسماء وبيانات المسؤولين عن التعامل مع فيروس كورونا في وزارة الصحة والتنسيق معها، وكذلك اللجنة الوطنية للصحة المدرسية لتوحيد الجهود لمكافحة المرض وسبل الوقاية منه، إضافة إلى تكثيف الزيارات الميدانية من المشرفين الصحيين للمدارس، والتأكد من السلامة البيئية للمدرسة، وتزويد جميع المرشدين الصحيين بدليل التعامل مع الأمراض المعدية في المدارس، والتنسيق مع مديرية الصحة بالمنطقة لتنفيذ ورش تدريبية ولقاءات للعاملين في مجال الصحة المدرسية لإطلاعهم على المسؤوليات والأدوار المنوطة بالمدرسة، وكذلك الحرص على نظافة المدرسة، وجودة التهوية، وسلامة مياه الشرب، وجودة الغذاء في المقصف المدرسي، والتأكيد على جميع المعلمين والمعلمات، بضرورة تفقد ومتابعة الطلاب والطالبات، والتأكد من الحالة الصحية لهم. ويذكر في هذا الخصوص أن المملكة كانت قد أعلنت توقف الدراسة في مدينة القطيف في شرق المملكة، كونها المدينة التي انتشر فيها المرض، كما أعلنت ذلك وزارة الصحة في تعاملها مع الحالات التي ظهرت فيها حالات الإصابة، إذ أكدت في بيانها الصادر في الثامن من مارس أن «جميع الحالات معزولة حاليًا وجارٍ التعامل معها وتقديم الخدمة الصحية وفق الإجراءات الصحية المعتمدة، علما بأن جميعهم من سكان محافظة القطيف».
يعد كل ما سبق غيضا من فيض الإجراءات الاحترازية التي انتهجتها المملكة للتعامل مع مرض كورونا المستجد، حرصا على سلامة مواطنيها في الداخل والخارج، وكذلك تكريس جهودها في سبيل حماية المقيمين على أراضيها من الإصابة بالفيروس. وما يلفت الانتباه في إدارة المملكة لملف هذه الأزمة ملاحظتين مهمتين:
الأولى: التعاون الكامل بين جميع الوزارات والأجهزة المعنية في المملكة كل حسب تخصصه واختصاصه في سبيل نجاح المواجهة الشاملة لهذا المرض.
الثانية: الدور الفاعل لوزارة الصحة السعودية فيما تتخذه من إجراءات احترازية من ناحية، وشفافية في الإعلان عن أي إصابات أو حالات اشتباه وسرعة التعامل معها من ناحية أخرى، وهو ما مكنها من الحد من تفاقم المرض وانتشاره.
نهاية القول إنه إذا كان صحيحاً أن دستور منظمة الصحة العالمية يؤكد أن الإنجازات التي تحققها أي دولة في مجال تعزيز الصحة وحمايتها هي إنجازات ذات قيمة بالنسبة للجميع، بمعنى أنه في عصر العولمة يؤثر التقدم الذي يحققه بلد واحد في مجال الصحة العامة على المجتمع الدولي ككل، فإنه من الصحيح كذلك أن الإخفاقات التي تحدث في أي دولة في مجال الصحة تؤثر سلبا على الجميع. ومن ثم، تظهر الحاجة الملحة إلى التعاون الدولي الفعال في مجال الصحة العامة، كون أن هذا التعاون هو الأساس الضروري اللازم للتنمية المستدامة التي تستهدف رفاهية مختلف الشعوب.