رحيل المستعرب الإسباني الذي صالح ثقافته مع تراث لغة الضاد
الموريتاني : توفي -أول أمس الثلاثاء- المستعرب الإسباني فيديريكو كورينتي عن عمر يناهز 79 عاما. ويعتبر القاموس العربي الإسباني الذي يحمله اسمه بمثابة مؤسسة للأجيال الأربعة الأخيرة من المستعربين الإسبان.
واعتبر انتخاب كورينتي عام 2017 عضوا بالأكاديمية الملكية الإسبانية، نوعا من المصالحة الرمزية للمؤسسة الثقافية الإسبانية مع الفضاء الثقافي واللغوي العربي، وذلك لأن هذا الباحث -الذي يعد أحد رواد الدراسات اللغوية العربية في العالم الإيبيري- هو أول مستعرب يحتل مقعدا في الأكاديمية الإسبانية منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، وهو فراغ ظل يبدو مجانبا للمنطق ومجافيا لثقل وعمق العلاقات الثقافية واللغوية بين إسبانيا والعالم العربي الإسلامي.
المعجم الأهم
وقال الأكاديمي لوز غوميز -في مقال تأبيني بصحيفة إلباييس- إن “قليلين يمكنهم أن يتخيلوا اليوم الهزة التي سببها ظهور قاموسه العربي الإسباني عام 1977، الذي نشره معهد الثقافة العربي الإسباني”، مشيرا إلى أنه في تلك الأيام كان على الطلاب الذين يريدون اقتحام عالم اللغة العربية أن يعبروا إليه من بوابة القواميس الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية.
وأشار غوميز -وهو أستاذ الدراسات العربية الإسلامية في الجامعة المستقلة بمدريد- إلى أن اللجوء إلى تلك القواميس كان يعني الصراع على النسخ القليلة المتوفرة في مكتبات الجامعات.
وأضاف “إذا استثنينا المعاجم التي ألفها المبشرون في الأراضي المقدسة وشمال أفريقيا، فإنه قبل صدور معجم كورينتي قد مرت حوالي 5 قرون منذ نشر أول قاموس ثنائي اللغة عربي إسباني جدير بهذا الاسم على يد بيدرو دي ألكالا عام 1505”.
حركة التعريب
وبفضل معجم “كورينتي” اتسع مجال دراسة اللغة العربية ودخلت حركة التعريب الإسبانية مرحلة الحداثة، وتصالحت الأكاديمية الإسبانية نسبيا مع ماضيها على الرغم من أنه ربما لم يكن كورينتي أو الجامعة يدركان ذلك في تلك الفترة.
لقد استغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن تحصل بعض التغييرات، والآن باتت هناك الكثير من القواميس الثنائية اللغة (إسباني/عربي).
واعتبر كورينتي -خريج جامعة كومبلوتنسي بمدريد عام 1962- ضعف الاهتمام بالثقافة العربية ناجما عن الجدار السياسي الراهن الذي يفصل العالمين العربي والغربي، ويصب الماء في طاحونة المبشرين بصدام الحضارات؛ موجها أصبع الاتهام مباشرة إلى الغرب، محملا إياه مسؤولية كبرى في انبثاق “الإرهاب الجهادي” بل في إجهاض بعض مساعي التحديث في العالم العربي الإسلامي.
ورأى الباحث -المنحدر من عاصمة التراث الأندلسي غرناطة، حيث استظل بحدائقها التاريخية وقباب قصورها وطالع نفائسها التي تحمل آثار الوجود العربي والتنوع الثقافي الذي طبعه- أن الموقف الأيديولوجي والعقائدي تجاه الثقافة العربية كان له أثر سلبي على مستوى الدراسات العربية في الأرض الإيبيرية مقارنة مع باقي الدول الأوروبية، بل إنه ليستغرب كيف أن حركة استيراد المؤلفات باللغة الروسية كانت أكثر حجما من نظيرتها باللغة والثقافة العربية، رغم عامل القرب الجغرافي والتراث المشترك.
تعدد التخصصات
هكذا يرحل أفضل لغوي اهتم باللغة العربية الأندلسية، في إطار بحثي أسسه في الستينيات على الرغم من كل الصعوبات الناجمة عن سعي رواد الدراسات العربية من أجل إضفاء طابع إسباني على الماضي العربي للبلد.
ونشر كورينتي أول دراسة نحوية جادة حول اللهجة الأندلسية عام 1977، والقاموس الأندلسي العربي عام 1977 أيضا، وهو ما يعكس وجه إسبانيا الأخرى التي كانت لها دائما ملامح عالمية.
وقد جسد الراحل في مجال الدراسات العربية ما يسمى “تعدد التخصصات”، وسمح له تكوينه اللغوي الواسع أن يتنقل بين اللغات السامية والرومانية (قاموسه عن العروبة والأصوات ذات الصلة بالرومانسية الإيبيرية، 1999)، وبين الأنساق الثقافية العالمة (ترجم المعلقات) والثقافات الشعبية، وكرس جزءا كبيرا من خطابه أثناء حفل تنصيبه في الأكاديمية الملكية لحضور اللغة العربية في ألعاب الأطفال والعبارات المستعملة في الشتائم.
تكوين مركب
وكان كورينتي من الأكاديميين الذين يشعرون بالدهشة، وقد بدا سعيدا يوم تولى منصبه في الأكاديمية التي اتهمها بالشيخوخة، وقال إن الأمر لا ينبغي أن يستمر كذلك (كان عمره آنذاك 77 عاما).
ولد كورينتي في غرناطة، لكنه ذات مرة ألمح إلى جزر الكناري في إشارة إلى القرب من أفريقيا (درّس المغرب ومصر) وأميركا (درّس في الولايات المتحدة والبرازيل)، وهما قارتان قضى فيهما جزءا كبيرا من حياته قبل الانغماس في دوامة الجامعة الإسبانية.
امتهن التدريس في جامعة سرقسطة، وهو المكان الذي عاش فيه أطول مدة، وهناك وافته المنية. كما أنه كان أستاذا لعدة سنوات في جامعة كومبلوتنسي بمدريد، التي حصل فيها على البكالوريوس والدكتوراه في فقه اللغات السامية.
“جهل إرادي”
وحرص الباحث الإسباني الراحل الذي درّس في جامعة محمد الخامس بالرباط من 1965 إلى 1968، على إثارة الانتباه إلى حالة “الجهل الإرادي” للغة وثقافة التي تشكل جزءا صميما من التاريخ الإسباني، محذرا من أن العداء الأيديولوجي والديني يهدد غنى الهوية الوطنية ويحدّ من تنوعها ويحرمها من روافدها.
بذلك يكون الرجل سليل تلك الشجرة من المستعربين الذين عملوا على تخليص الإسبان من عقدة الثأر التاريخي من الماضي العربي، وإشعارهم بتملك مكون تراثي أصيل لكيانهم الوطني، لغة وثقافة ونمط عيش.
وإن كانت حركة المستعربين في الفضاء اللغوي الإسباني ليست جديدة، فإن الزخم الحقيقي لهذه الحركة أخذ انطلاقته الحقيقية في القرن 19، مع النقلة التي سجلت على مستوى دراسة وإحياء الأدب الأندلسي وكشف كنوز مغمورة من المخطوطات والأعلام.